هُنا
وهُناك!
- نحبّ القديم لأنّه قديم. جزء كبير ومهمّ وأساسي من حبّنا للقديم كامن في رحيله عنّا وفي ابتعادنا عنه!. لقد صار “هناك”، و هذه الـ”هناك” تشير إلى قطعة من الزّمن، تَدَحْرَجْنَا خارجها، وبقيَتْ هي مكانها “هناك”!. حبّ الـ”هناك” فِطْرَة وغريزة، أو يكاد!. سواء كانت هذه الـ”هناك” قطعة من الزمن، أو قطعة من المكان!. هذا ما يُفسّر إلى حدّ كبير حبّ الإنسان للذّكرى والخيال وولعه بالسّفر والتّرحال على حدّ سواء!.
- الـ”هناك” في التذكّر وفي التّخيّل، غالبًا ما تكون خفيفة، مُفرَّغَة من ثُقل الـ”هنا”، حيث المتاعب اليوميّة الصغيرة والمتلاحقة. الـ”هناك” دائمًا، أو لنقل غالبًا، أكثر رشاقة. لا في الذّكرى حَذَر لأنّ كل شيء حدث وانتهى، ولا في الخيال كَدَر لأنّه التُّرْبة الخصبة للأمنيات!. لذلك يهرب الإنسان كثيرًا إلى لحظات سابقة يتذكّرها، ولحظات لاحقة يتخيّلها، ليتخفّف من ثقل الحاضر وما يحوم حول “الآن” والـ”هنا” من احتراز وتحفّظ وحذر ومن استياء وتبرّم وكَدَر!.
- لكن ماذا لو عاد ذلك الماضي، وتلك اللحظات القديمة الممتعة في ذكراها؟! عدد كبير من هذه اللّحظات السّعيدة سيبدو أقلّ إسعادًا ممّا هو!. والأمر نفسه فيما لو تحقّق ما نحلم به ونتخيّله!. ما كان وما سيكون لن يكون مبهجًا، ولن تكون له الجاذبيّة الأخّاذة نفسها، لأنه ببساطة سيكون “هنا” و”الآن”!. وسوف تسري عليه قوانين الـ”هنا” و”الآن”!.
- أظنّ أن كثيرين مثلي يحبّون الأفلام السينمائية القديمة. شخصيًّا لا يمرّ يوم تقريبًا دون متابعة فيلم عربي “أسود وأبيض”!. أفلام “شادية” تحديدًا لا تُملّ!. وكذلك أفلام “إسماعيل ياسين” و”فريد شوفي” و”شكري سرحان”. لكنني حين أفكّر في الأمر، أكتشف أنني أحب هذه الأفلام لأنها “قديمة”، وإلّا فإنّ الأداء التمثيلي والحبكة وكثيرًا من الشروط السينمائيّة الأُخرى تبدو مُختلّة!. بمعنى أنني وفيما لو تابعت ما أُتابع على أنه “الآن” فسينهار كل شيء: الاستمتاع والجاذبيّة، وسوف يبهت أمر كل شيء تقريبًا!. إنني أحبّ هذا الفيلم القديم لأنه “قديم”، وبمجرّد فصل وعزل هذا “القِدَم” عنه، يفنى كل سحر باتع فيه!.
- في الحبّ أيضًا، وهذا تحذير للعشّاق: ما مضى مضى!. لا تحاول أن تحب ذات الشّخص في مرّتين منفصلتين متباعدتين!. سوف لن يكون هو، وأنتَ لست أنت!. إنّ حبّ شخصين في وقت واحد، على ما في الأمر من خُبْث ونَكْث، أقرب إلى التّمام وأكثر إمكانيّة، من حبّ شخص واحد في زمنين مختلفين يفصل بينهما زمن فراق طويل، على ما في ذلك من إخلاص ووفاء!.
- نرجع إلى السّينما لنتجاوزها!. السّينما من بين بقيّة الفنون هي الأكثر عُرْضةً لتداخلات الزمان والمكان. لا يُمكن التفاعل مع القديم منها إلا باعتباره قديمًا، وهذا أحد عيوبها فيما لو تمّت مقارنتها في هذا الشّأن مع بقيّة الفنون!. لأنّ بقيّة الفنون والآداب، ومع اختلاف النِّسَب فيما بينها، إلّا أنها لا تخضع، خضوع السينما، لمعرفة الـ”متى” والـ”هناك”!.
- العمل الفنّي العظيم له سُلْطَة على الزّمن، وسرّه وسحره كامن في قدرته على نقلنا إلى “هناك” وعلى سحب الحلم و”الآتي” إلى “هنا.. الآن” دون تبديد الخِفّة!. والموسيقى أقدر الفنون على فعل ذلك، لا يجاريها ولا يزاحمها ولا يناظرها في ذلك فنّ آخَر!.