«ويلسون»!
- لكي يحكي أحدنا، فإنه بحاجة إلى لسان وإلى “ويلسون”!. والقلمُ لسان. أمّا “ويلسون” فيكفي تخيّله والإحساس به!. لكن عند الحاجة، لا بدّ من إيجاده بأيّ شكل. وفي فيلم “Cast Away” تم ابتكاره من كُرَة قَدَم!.
- يصنع “تشاك” مركبًا بدائيًّا، مهلهلًا، في محاولة هي خليط من المقامَرة والمغامَرة، للخروج من الجزيرة. كانت طائرة البريد قد سقطت في البحر، ووجد نفسه وقد رمت به الأمواج إلى تلك الجزيرة، حيث لا أحد سواه. انقطعت صلته بالعالَم الذي نعرفه باستثناء بعض طرود بريديّة مغلّفة. يبدأ بفتح الإرساليات المغلّفة، يحاول الاستفادة من أي شيء فيها. في إحداها يجد كُرَة كانت مُرْسَلَة لطفل، يرميها جانبًا، ثم يعود إليها، ولأنّه جُرِح والدّم ينزف من يده: بالدَّمِ يرسم للكُرَة أنفًا وفمًا وعيونًا. يبتكر منها كائنًا ليُحاكيه!. يتحدّث معه، يحاوره، ويستشيره، ويبتسم له ويغضب منه!. يُقيم مع هذه الشخصيّة المرسومة بدمه علاقة صداقة.
ـ بالنّسبة لي، ينتهي الفيلم البديع “Cast Away” قبل نهايته الفعليّة بأكثر من نصف ساعة. تحديدًا، ينتهي بعد “1:47:9” من مدّة عرضه، حيث يلوّح “تشاك”، والذي قام بتجسيده “توم هانكس” ببراعة، طالبًا النجدة في الرّمق الأخير وقد أضناه التّعب، للسّفينة الكبيرة التي وجدها تمرّ بالقرب منه ما إن تمكّن من فتح عينيه!. لو كنتُ مخرجًا للفيلم لأنهيته عند هذه اللحظة، تاركًا للجمهور تخيّل بقيّة الحكاية بما في ذلك ما إذا كان تم إنقاذه أم لا!.
ـ ربّما سنحت فرصة أُخرى لأحدّثكم عن هوايتي في اختراع نهايات مغايرة لحكايات الكتب والأفلام!. لأنني الآن أريد توجيه الحديث إلى شخصيّة “ويلسون”: الكُرَة التي رُسِمَ عليها “لها” بالدّم وجهًا، ثم وحين اهترأت قليلًا، صنع لها صاحبها من الأعشاب والأخشاب شَعرًا، وصادقها، وظل يحاورها طول الوقت، إلى أن بكى بحرقة راعبة الأسف على فقدها في مغامرة الخروج الأخيرة، حيث حال بينهما الموج، في مشهد سينمائي مذهل!.
ـ “ويلسون” هذا هو القارئ “الضِّمني” الذي لا يمكن لكاتب، بل لا يمكن لأيّ فنّان مبدع في أي مجال، إلّا تخيّله لمحاكاته، فإنْ هو عجز عن ذلك، أو لم يفعل، فإنّه إمّا غير موهوب بالمَرّة، وإمّا أنّه كاتب تجاري رديء، يبحث عن زبائن لا عن قُرّاء!. فمن طبيعة التّاجر الحرص على معرفة الآخَر الذي يتوجّه إليه، معرفة مادّيّة. هذه الطّبيعة التّجاريّة عندما تكون ضمن نسيج الكاتب، فإنّها تقوده للبحث عن قارئ “فعلي” لا عن قارئ “ضمني”. وتُخضعه لطبيعة ومزاج هذا القارئ “الفعلي”، ممّا لا يُنتِج إبداعًا، ولا فكرًا مختلفًا ومغايرًا بأيّ شكل!. تصبح الكتابة، ويصبح العمل الفنّي عمومًا، مجرّد سِلْعَة!.
ـ لكل إنسان منّا “ويلسونـ…ـهُ” الخاصّ به!. لأنّه ومهما حسبنا أنفسنا في زحام فإنّ لكلٍّ منّا عُزلته!. الزّحام قد يُلغي الوِحْدَة لكن لا شيء بإمكانه إلغاء ومنع العُزْلَة!. والإبداع عمومًا سابحٌ في مياه هذه العُزْلَة، أو منبوذ في جزيرتها مثل بطل الفيلم تمامًا!.
ـ والقارئ، أو المتلقّي للفنّ عمومًا، وبصفته مُبدع مُشارِك في العمل الذي يتأمّله، فإنّ له “ويلسونـ…ـهُ” الخاص أيضًا!. وهو مثل “ويلسون” الفنّان تمامًا: شخصيّة متخيّلة، بل و”مُلَفَّقَة” لكن بالمعنى الفنّي لكلمة “تلفيق”!. فمُحبّ الشِّعر حقًّا لا يكتفي بشاعر واحد، وليس لعاشق الرّوايات روائي واحد لا قبله ولا بعده ولا معه!. قد يكون لدى كلّ منهما مبدعًا يراه الأفضل. لكن، في الحقيقة الدّفينة، فإنّ لدى الأوّل شاعر “مُلَفَّق” هو خليط ممزوج من كلّ الشّعراء، القديم منهم والمُعاصر، ومن سيأتي!. شاعر مرسوم بدم قارئ الشِّعر ومُحبّه، وكذلك الأمر بالنّسبة لقارئ الرّوايات، وكلّ فنّ!.
ـ لسانك حصانك. أمّا “ويلسونـ…ـك” فهو الفضاء والسِّباق والرّحلة!.