سلسلة مفاتيح!
- مقالة الأمس كانت تتحدّث عن “ويلسون” في فيلم “Cast Away”، تلك الشخصيّة التي ابتكرها وصنعها منبوذ الجزيرة من كُرَة رَسَم عليها “لها” بالدّم عيونًا وفمًا وأنفًا، وصادقها!. بعد نشر المقالة، دار بيني وبين صديق عزيز حوار عتب واعتراض!. عاتبني لأنّني، وعلى حد تعبيره: “حَرَقْتُ” عليه الفيلم بسرد أهم أحداثه!. والاعتراض بسبب استخدامي لكلمة “مُلَفَّقة” حين كتبت: “والقارئ، أو المتلقّي للفنّ عمومًا، وبصفته مُبدعًا مُشارِكًا في العمل الذي يتأمّله، فإنّ له “ويلسونـ…ـهُ” الخاص أيضًا!. وهو مثل “ويلسون” الفنّان تمامًا: شخصيّة متخيّلة، بل و”مُلَفَّقَة” لكن بالمعنى الفنّي لكلمة “تلفيق”!.
- حديث اليوم عن هاتين النّقطتين: هل يُمكن حقًّا لمعرفة الحكاية أن تقوم بـ”حَرْق” الرّواية على القارئ، ونفي المتعة عن المُشاهِد؟! وما هو “التّلفيق” الفنّي، وهل يمكن له أن يكون إيجابيًّا من النّاحية الجماليّة؟!.
- ظنّي، ونهجي قدْر الإمكان: الابتعاد عن سرد أحداث الفيلم وحكاية الرّواية ما أمكن ذلك، حفاظًا على عنصر التّشويق. لكن هل التشويق مُقتصِر على الحكاية والأحداث فقط؟! ظنّي: لا، أو أنّ ذلك يحدث فقط مع الأفلام والروايات الأقلّ قيمةً، أو “السّوقيّة”!.
- أقلّ عناصر التّشويق في الفيلم أو الرّواية هو الحكاية وما جرى!. لو كان الأمر غير ذلك لما بقيت كلّ من “مدام بوفاري” و”آنّا كارنينا” من أعظم روايات الدّنيا وأكثر الأعمال الأدبيّة انتشارًا وإثارةً إلى اليوم!. ولما تابع أحد فيلمًا سينمائيًّا لأكثر من مرَّة!. نعم، الحكاية والأحداث من عناصر التّشويق، لكن الأعمال الأدبيّة والفنيّة العظيمة لا تكتفي بذلك، بل ولا تُعوِّل عليه!.
- بالنّسبة للقارئ والمشاهِد، فإنّ هناك فائدة عظيمة يمكن له الظَّفر بها مُقابِل فقده لمعرفة الأحداث!. وهذا ما يحصل للجميع تقريبًا بدءًا من القراءة الثّانية للرّواية، أو المشاهدة الثّانية للفيلم، أو التأمّل الثاني في أي عمل فنّي. فمن خلال العودة لأي عمل، نكون قد عرفنا سلفًا الأحداث والحكاية والموضوع. قد يُفقدنا هذا شيئًا من المتعة والتّشويق، لكنه في المقابِل يجعلنا، أقلّ اهتمامًا بالسّطح، ونصير أقدر على التّوغّل والتّأمّل في التفاصيل والنمنمات الإبداعيّة الصغيرة التي غفلنا عنها في القراءة “والمشاهدة” الأولى!. ما إن ننعتق من قيد “الحكاية” وتبهتُ، ولو قليلًا، سطوة “الموضوع”، حتّى نصبح أكثر قدرة على تأمّل الجماليّات الفنيّة الخبيئة في أي عمل فنّي أو أدبي!.
- أمّا مصطلح “التّلفيق الجمالي”، فهو مستمدّ من “جيروم ستولنيتز”، صاحب كتاب “النّقد الفنّي: دراسة جماليّة وفلسفيّة”. هو من دلّني عليه، في مؤلَّفه المذهل هذا، والذي كتبتُ عنه أكثر من مرَّة، وأظلّ أُردِّد: هو من الكتب التي قرأتها قبل أكثر من ثلاثين سنة، وهو أكثر كتاب بشري أعدتُ قراءته، وفي كلّ مرَّة، ومع كل قراءة جديدة، تتغيّر فيّ كقارئ وكإنسان أشياء كثيرة لما أظنّه أطيب وأعذب وأرحب!.
- يعرض هذا الكتاب البديع نظريّات ومدارس الإبداع والنّقد الفنّي. يسرد تاريخها، ويبحث فيها جماليًّا، كاشفًا أسباب وجودها وأهميّة تنوّعها وضرورة تجدّدها وتوالدها. وفي الأخير، يجيء السؤال: تُرى، أيّ هذه النّظريّات والمذاهب أوجب بالاتّباع لكشف جماليّات عمل ما؟! ويجيء الجواب: كل هذه النّظريّات والمدارس والمذاهب النّقديّة ليست إلّا مفاتيح، الهدف منها تمكيننا من فتح الباب!. ما يفتح منها باب العمل لنا فهو صالح وجدير، والبقيّة متروكة لأبواب أُخرى!. يصف “ستولنيتز” نظريّة الجمع هذه بـ”التّلفيقيّة”!. ذلك أنّ غيرها من النّظريّات، وعلى قصور كل واحدةٍ منها، إلا أنّ كلّ نظريّة منها قائمة بذاتها، بينما نظريّة سلسلة المفاتيح هذه، وعلى ما لها من شموليّة وقدرة على الاحتواء؛ وعلى ما فيها من غِنَى ومرونة وحيويّة، إلّا أنها لا يُمكن أنْ تُوجَد بذاتها، وركيزتها الاتّكاء على كلّ ما عداها من نظريّات سابقة!.
- نعم، لكلّ مبدع قارئ “ضمني” وليس “فعلي”. قارئ مُتَخَيَّل، و”مُلَفّق” تلفيقًا جماليًّا!. ولتقريب الصورة، سأذكّركم بفيلم آخر تجلّت فيه عبقريّة “توم هانس” في الأداء إلى أرفع درجة وأبعد حدّ، ذلك هو فيلم “Foreest Gump”. في هذه التّحفة السّينمائيّة نشاهد “فورست جامب” جالسًا بانتظار وصول الحافلة، وفي هذه الأثناء يبدأ بسرد حكايته للسّيّدة السمراء التي جلست بقربه، دون اهتمام بردّ فعلها أو بحرارة تجاوبها، وحين يأتي دور حافلتها تتركه وتمضي، لكنه يستمرّ في سرد الحكاية للجالس الجديد، لا يبدأ السرد من جديد، لكنه يُكمل!. وكأنّ كلّ من جلسوا بقربه ليسوا سوى مستمع “قارئ” واحد!. لقد كانوا جميعهم قارئًا بالفعل، وكان هذا القارئ “مُلفَّقًا”!.
- بقيَ شيء لا بدّ من قوله فيما يخصّ صديقي وعتبه واعتراضه. كان “مُلَفّقًا” يا أحبّة!.