توم
الشجاع
أرجو ألَّا تثير السطور التالية الشجون عند بعض الناس، وإذا أثارت، فإن كاتبها أوَّل مَن أثيرت شجونه. كنت أعتقد في مراهقتي أن الشجاعة بالإقدام في الشجارات إذا ما فُرِضَت، ثم وبعد مدة، اكتشفت أن الشجاعة هي في الرأي، واتخاذه، وتنفيذه.
الرأي هو أكثر ما يُواجه، والرأي في اختيار أسلوب حياتك الذي يناسبك، هو رأي شجاع، ولا ينفذه إلا شجاع، لأن الكثيرين يعيشون أسلوب حياة لم يختاروها، فهم إما وجدوها أمامهم، فعاشوها، أو تجنَّبوا أسلوب الحياة الذي يرغبونه كيلا يتم انتقادهم، وعاشوا بالطريقة التي لا يُنتقدون بها، هذا إن سلموا من النقد، ولن يسلموا.
ما أثار فكرة الشجاعة ومفهومها لدي، هو ما قرأته عن شاب هولندي، يدعى توم جروند. توم هذا يسافر منذ عشر سنوات دون توقف، ويسجل سفرياته في مدوِّنته المختصَّة بالسفر، وقد زار لغاية الآن 130 بلدًا. لو كنت أنا مَن فكر في ذلك لما استطعت تنفيذ هذه الفكرة، لأنني لا أملك الشجاعة الكافية لتنفيذ ما أرغب به من غايات كبرى، كما فعل توم! ولن أتغلب على كل الانتقادات التي ستواجهني، ابتداءً من العائلة، مرورًا بالأصدقاء، ووصولًا إلى المعارف. حينها سيقولون إنني غريب الأطوار، وغير مسؤول، وأضعت فرصًا كثيرة بسبب حبي لـ “الفرفرة”. ولا أشك في أنهم سيطلقون عني كثيرًا من الشائعات التي لا أساس لها من الصحة! في حين أن توم كان شجاعًا جدًّا، وحقق رغبته لا رغبة بيئته، كما كان إداريًّا ممتازًا، إذ عمل لمدة ثلاث سنوات، وجمع، وادخر ما استطاع من مال، ووضع لنفسه مصروفًا قدره 30 دولارًا في كل يوم سفر بما في ذلك السكن.
لم ينسَ توم أن يدوِّن يومياته، وافتتح أكثر من حساب على الـ “سوشال ميديا”، وصار ينشر للمتابعين بعضًا مما يلاقيه في رحلاته، وشكَّل بذلك صداقات من جميع أنحاء العالم الذي اكتشفه بنفسه. وجد توم أن الإنسان الذي ينتمي إلى هذه القارة، هو نفسه الإنسان الذي ينتمي إلى تلك القارة، أما الاختلافات، فهي ما يوضع في عقل هذا الإنسان في الجغرافيا التي يعيش فيها. لا شكَّ أن توم اكتشف الحياة الحقيقية مبكرًا، ولأنه استمر في العيش بأسلوبه، ولأن الـ “سوشال ميديا” عرَّفته بأشخاص لا يعرفهم، فقد نال بعض الشهرة، ما سهَّل عليه سفرياته، ومنحه دخلًا من بعض الفنادق التي أقام بها وصوَّرها بكاميرته. صحيحٌ أن توم لم يكوِّن عائلةً إلى الآن، ولم يلتحق بوظيفة، وليست عنده صداقات ثابتة، لكن عندما سنحت له الفرصة عاش بالطريقة التي اختارها بنفسه، وأظنها شجاعة لا يمتلكها إلا الشجعان الحقيقيون.
يقول عن أصعب ما يلاقيه فيه سفره: “أصعب ما في الأمر أنني أودّع باستمرار. كل بضعة أيام أودّع مَن التقيتهم، وقضيت معهم وقتًا رائعًا. إنه أمر صعب”. صحيح ما قلته يا توم، لكنك مع ذلك تعيش كما أردت، وعلى الرغم من أنك تتنقل دائمًا، وغير مستقرٍّ أبدًا، إلا أن هناك ممن يظهر عليهم الاستقرار يتمنون شيئًا من شجاعتك. أنا أحدهم.