البكاء على أطلال
منزل طلال
عندما يرحل الإنسان جسدًا، فإن روحه تتشبث في نفوس محبيّه فلا تغادرها، وتبقى العلاقة الأبدية تتغذى على الذكريات بمختلف ألوانها، ويزهو ربيعها في الأماكن والمقتنيات، فتتجدد حياة “الراحلين” في ذكرانا. وإن كان الراحل قد ترك إرثًا، فهنا تكون العلاقة أعمق وأكبر، وقد تمتد لتصل إلى ما نسميه “متاحف النجوم” التي تسكنها ذكرياتهم.
في مدينة مونترو السويسرية، تلك البلدة العاشقة للموسيقى، يطل في غربها وبالقرب من البحيرة منزل أسطورة الكوميديا الصامتة تشارلي شابلن، الذي سكنه في آخر أيامه، بعدها أُغلق لأكثر 20 عامًا، قبل أن تتدخل أيادٍ ذكية وتحوله إلى متحف حمل اسم “عالم شابلن”.
في صيف 2018 زرت المنزل، بعد سؤال “جوجل” عن أشهر المواقع السياحية، وإذ بمبنى كبير والسياح بالمئات يصطفون طوابير أمام أبوابه بعد أن مررنا بشباك التذاكر، فكانت تجربةً لا تنسى، فكل حياته وتاريخه وما قدم محفوظ في ذلك المنزل، الذي تسكنك الدهشة لحين مغادرته، وعند سؤالي المسؤولين عنه حول فكرته، كانت الإجابة بأن “هوليوود” كرمت النجم الأسطوري بهذه الفكرة وعملت عليها.
ويضم المكان محاكاةً لمواقع التصوير والكاميرات التي استخدمت، وصالة سينما تعرض أفلامه الصامتة، ومتحفًا للشمع لأبرز أصدقائه من المشاهير، ومقتنياته.
“عالم شابلن”.. ليس الوحيد في فكرة تخليد منازل النجوم وتحويلها إلى متاحف ومزارات، فالعالم من حولنا يشهد ذلك، ونحن جزء من هذا العالم بالطبع.
ما دعا إلى المقدمة والمثال عليها، هو رؤية ابنة الراحل طلال مداح تصوّر منزله بحي “كيلو 10” في محافظة جدة، وتوثق بعدسة جوالها الصغيرة الحياة الكبيرة للنجم الأسطوري الذي عاشها في منزله القديم، الذي تُرك للغبار والمخلفات، وبقي فيه ذكرى “ومقادير” كتبت على المكان، فتحول إلى أشبه بالخرابة، كما تعكس الصور.
طلال مداح.. يكفي الاسم لتتحرك معه كل الجهات المختصة بالثقافة والفنون والأدب لحفظ تاريخه وتوثيقه، فلقد ترك لنا إرثًا فنيًّا لم ولن يتكرر، فلا نبادله بالإهمال، فسيارة “المازيراتي” الثمانينية ومجلسه الخارجي وغرفة نومه وأشجاره، ليس من المنطق أن تتحول إلى كومة غبار وبقايا ذكريات. كلنا ثقة في وزارة الثقافة بقيادة وزيرها الشاب الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان الذي فتح نوافذ عديدة في الثقافة وأصلها بحفظ تاريخ أساطيرنا ومن خدموا الوطن الغالي في مجالات عدة، وأن تتحول منازلهم إلى أشبه بالمتاحف ويكون مردودها على عائلاتهم اقتصاديًّا، وقبل ذلك تخليد ذكراهم وجعلها في متناول الأجيال، وكم رائع أن تكون البداية مع الراحل طلال.