الصانع
الأول
غرائب الإنسان في الحياة لا تنتهي، و نحن نفضّل قراءة الغرائب لأن فيها ما هو جديد وغير معتاد، ولو لم تكن هناك غرائب ومغامرات لشعر أكثرنا بالملل. عند هذا الحد لا تبدو هناك مشكلة، طالما أن الغرائب تقع على غيرك وليست عليك، لكن البعض يبحثون عن الجديد فإن لم يجدوه قاموا بابتكاره، حتى إن كان فيه ضرر عليهم.
لو انتبه المرء لنفسه جيدًا لرأى أن معظم مشاكله من صناعته لا من الآخرين، هو غالبًا الصانع الأول لها، وعلى سبيل الأمثلة البسيطة لا أحد تسبب في أن تكون سمينًا بعد أن أعطاك الله جسدًا رشيقًا، أنت فضّلت أن تكثر من الشاورما والبرجر المغلف بالجبنة، ولا أحد وضع السلاح على رأسك وأجبرك على سحب الدخان من سيجارتك الأولى، ولا أحد خدعك لكي تصرف أموالك بطريقة المبذرين. ولكي لا أبدو حادًا فهذا الكلام إن كان موجهًا فهو موجه لي بالدرجة الأولى. من غرائب ما قرأته في الأيام الأخيرة عن رجل أظنه من بلاد البيتزا - فضلت اسم البيتزا على إيطاليا كوني صائمًا وأشعر بالجوع - هذا الرجل كان موظفًا، ولست متأكدًا إن كان قد سمع محاضرة يقول فيها المحاضر: اترك وظيفتك الآن وافتتح مشروعك الخاص! الرجل استدان من البنك مبلغًا يسدده على سنوات، ولأنه بدون خبرة، اعتقد بأنه سيستطيع التسديد بسهولة من أرباح مشروعه الذي سيفتتحه قريبًا، لكن صاحبنا كان يجهل أن التجارة معرفة، فبدأ مثل كل الذين دخلوا السوق على (العمياني) فخسر المال وعجز عن التسديد. ما الحل؟ قرضًا ثانيًا يستطيع أن يسدد منه القرض الأول ويكمل مشروعه، هكذا قرر في الوقت الذي كان يستطيع التوقف والانسحاب مع قبول خسارة واحدة. تراكمت الخسائر وتراكمت الفوائد مع القرض الثالث، فقروض البنوك دوامة لا تخرج منها إلا وأنت (دايخ) السبع (دوخات)، هي علاقة لا ينتصر فيها إلاّ البنك، ولا ُيهزم فيها إلا أنت، هي المباراة الوحيدة المعروفة نتيجتها بمجرد أن تنطلق. استدان من أهله وأصحابه بعد أن أصبحت البنوك تلاحقه، اتصالاتهم لا تتوقف، تبدأ من الصباح ولا تنتهي إلاّ بعد نهاية دوام الموظفين، صارت رنات الجوال ترعبه، وتمنى لو أن الزمن يتوقف وتعود إليه حياته السابقة، ورأى متأخرًا كيف أنها كانت حياة رائعة. بعد أن تراكمت الديون من كل الجهات وشعوره بالعجز وقربه من دخول السجن، قرر القفز من شقة العمارة التي يسكنها، لكنه سقط على سيارة فاخرة ولم يمت، فطالبته شركت التأمين بدفع مبلغ كبير ثمنًا لتصليحها! توقفت الحكاية التي قرأتها عند هذا الحد. ترى كم شخص في هذا العالم لا يعرف قيمة ما لديه من حياة رائعة؟.
ـ بنجامين فرانكلين: الطمع يجعل الأغنياء فقراء.