عبد الكريم.. صوتنا الجريح!
لم يشكل لي رحيل عبد الكريم عبد القادر صدمة، الإنسان يرحل عن الحياة في أي لحظة، وتزداد احتمالية الرحيل كلما تقدم في العمر، لكن خبر رحيله أحزنني، وفتح خزانة الذكريات، فانهمرت على السطح بطريقة يصعب جمعها أو عدها، فجأة تكتشف أن ارتباطه معك أكثر مما تظن، وارتباطك معه أمتن مما اعتقدت، فجأة تكتشف أنه صديق طالما كان حاضرًا بجانبك، يقول عنك ما شعرت به وعجزت عن قوله، صديق لا يترك أصدقاءه وحيدين في أحزانهم، ولا يعاتبك إذا ما تركته وذهبت إلى أفراحك دون أن تصحبه معك.
فجأة تكتشف أن الزمن مر سريعًا، وأن في الزمن السريع هذا الكثير والكثير من المحطات التي اعتقدت لشدة طولها أنك لن تغادرها!. استضفت عبد الكريم عبد القادر على أثير الإذاعة في لقاءات مطوّلة عدة مرات، ولاحظت أنه يفرض إيقاعه على اللقاءات، من خلال حديثه الذي يبدو هادئًا نُطقًا، عميقًا فكرًا، وهو وإن زدت من سخونة الأسئلة لا يردها عليك، إنما يستقبلها بكل هدوء ليجيب بقناعاته الخاصة به، مثلما كانت أغانيه، ومثلما كان هو، حيث أغانيه تشبهه تمامًا. أعطتني الإذاعة الكثير من المتع، خصوصًا في الحوارات مع الأسماء التي تميزت لشدة موهبتها وطول تجربتها، وكان عبد الكريم، رحمه الله، واحدًا ممن يشعر المحاور معهم أن الحديث لا يمر عبر الأثير، إنما حديث صديقين في زاوية مقهى دافئ، لشدة ما كان في أسلوبه من رومانسية ودفئ الصوت والصدق، لكن المتع الإذاعية لا تخلو من مواجهات مع حقيقة مؤلمة لا تتوقف عن تكرار نفسها، عندما تواجهك برحيل أحد الذين حاورتهم وأحببتهم، وأن اللقاء الأخير الذي أجريته معه كان دون علم منكما هو اللقاء الأخير. بالأمس وكان الحديث عبر الأثير عن الراحل عبد الكريم عبد القادر، استضفت الأخ العزيز المؤرخ والناقد الفني يحيى مفرح زريقان، سألته السؤال الذي فكرت به منذ سماعي خبر رحيل عبد الكريم: لماذا تميّز عبد الكريم من بين كل الأصوات الجميلة التي ظهرت في جيله في الساحة الغنائية الكويتية؟ وكانت إجابة الأستاذ يحيى كافية عن سبب تميز وتفرد عبد الكريم، رحمه الله، أجاب يحيى (العقلية، الذهنية، الرؤية، الهدف، المشروع، عبد الكريم عبد القادر سيخلد في تجربته وفي سلوكياته وإنسانيته، صنع هوية فنية لن تتكرر، وترجم المعادلة الفنية التي تقول: الفن إذا تمثل في الإنسان يسمو به، وقلة قليلة من الذين ينتمون لهذه الشريحة من الفنانين، عبد الكريم ظهر في عصر النهضة الفنية في الكويت، وكانت تعج بالعديد من الأسماء، وأجزم يقينًا أنه كان يقرأ المشهد جيدًا، فقدراته العبقرية جعلته يرسم مسارًا مختلفًا عن زملائه، كان يناقش النص الغنائي جملة جملة، ومفردة مفردة، يناقش الملحن، كان يملك فكرًا ثقافيًا عاليًا، فظهرت أغانيه تشبهه لحد كبير، لقد استطاع أن يصنع لنفسه منهجًا، وبدر بورسلي وعبد الرب إدريس وعبد اللطيف البناي يدركون تمامًا من هو عبد الكريم عبد القادر، كان رحمه الله شغوفًا متساميًا على كل الصعوبات).