كانت المرحلة البلاتينيّة
في عامِ 1984، كانت الصورةُ التي تتراقصُ أمام عينَي بلا إطارٍ واضحِ الملامح.. «التغبيشُ» يسيطرُ على الموقفِ.. أتلمَّسُ الخطى وراءَ الاستقرارِ الكروي العاطفي مثل طفلٍ، يتلهَّى بأناشيدَ من كلماتٍ متقاطعةٍ.. عاشقٌ مجهولٌ في مجاميعِ الحبِّ الممنوع.. لا أعرفُ أين تذهبُ بقلبي الصغيرِ رياحُ الغرامِ في متاهاتِ لعبةٍ شبه مجنونةٍ، تحتاجُ فيها إلى قرارٍ عاقلٍ حتى تُكمل الطريقَ المكتظَّ بالسراب.. في هذا العام، استقبلت كرةُ القدمِ ثلاثةَ أبطالٍ، تربَّعوا للمرَّة الأولى على عرشِ قاراتِ آسيا وإفريقيا وأوروبا.. الأخضرُ السعودي، يغيِّرُ تركيبةَ الكبارِ في القارةِ الشاسعةِ بقيادةِ أسطورته ماجد عبد الله.. وفي القارةِ السمراء، يتقدَّمُ روجيه ميلا الجموعَ، ليضعَ بلادَه الكاميرون إلى جوارِ أولئك الذين تذوَّقوا حلاوةَ أن تكون الأوَّلَ.. ثم يأتي الموهبةُ الفرنسيَّةُ اللامعةُ والأنيقةُ ميشيل بلاتيني، ليقولَ كلمةَ الفصلِ في القارةِ العجوز.. ما كانت بلادُ النورِ والعطورِ قبل بلاتيني هذا، تعرفُ معنى الفرحِ، والانتصارِ، وانتزاعِ الألقابِ الكبيرة! وما كنتُ تلك الأيام، أتخيَّلُ أن لاعبَ وسطٍ، يمكنه صناعةُ فوارقَ واضحةٍ.. ما كنتُ أستوعبُ أبدًا، أن لاعبًا واحدًا فقط، يستطيعُ هزيمةَ منتخباتٍ عريقةٍ.. بهذه الحسبةِ، أعاد بلاتيني ترتيبَ قطعِ البازل في ملعبِ حديقةِ الأمراء الباريسي الشهير حتى تنتصرَ فرنسا أوَّلًا، ويدرك ثانيًا طفلٌ صغيرٌ، يعيشُ في أقاصي الشمالِ السعودي على أطرافِ مدينته رفحاء معاني خفيَّةٍ لكرةِ القدم.. كنتُ أحتاجُ بالفعلِ إلى بلاتيني حتى أقعَ لاحقًا في غرامِ مارادونا.. كان ميشيل في نسخةِ 1984، يرسمُ لوحةً نادرةً، جاء بها أجدادُه الإيطاليون خلال رحلةِ الهجرةِ في اتِّجاهٍ واحدٍ صوبَ ضواحي باريس قبل 150 عامًا.. الفلسفةُ الكرويَّةُ الفرنسيَّةُ برمَّتها قبل بلاتيني، ليست هي ذاتها بعده.. تيقَّن الفرنسيون يقينًا لا يُخالجه شكٌّ من أن الاعتمادَ على القدراتِ الفرديَّةِ الدربُ الوحيدُ السالكُ نحو منصَّاتِ التتويج.. الانعزالُ وراءَ فكرةِ الكرةِ الجماعيَّةِ، والتقليلُ من الاعتمادِ على المهارةِ الذاتيَّةِ سببان كفيلانِ بإصابتهم بالخيبةِ والموتِ تحت أنقاضِ الأحلامِ المؤجَّلةِ.. كان المدربُ ميشيل هيدالجو أهمُّ رجلٍ، يُفتَرضُ به الوصولُ إلى هذه القناعةِ المعقَّدة، وهذا ما حدثَ بالفعل.. لعبَ هيدالجو البطولةَ كما لعبت البرازيلُ في مونديالِ 82، فتركَ اللاعبَ الأكثر مهارةً وقدرةً على الحركةِ الهجوميَّةِ، الأستاذ بلاتيني، حرًّا طليقًا، يفعلُ ما يشاءُ، ويذهبُ أينما يريدُ على أرضِ الملعبِ، بينما أوكلَ إلى ثنائي الوسطِ جيريس وتيجانا مهمةَ مراقبةِ الخصومِ القادمين من أرضِ العدو.. بهذه المعادلةِ الماكرةِ، التي فعلها أعظمُ جيلٍ كروي برازيلي، استطاعت فرنسا إبهارَ العالمِ، وتمكَّن بلاتيني من تسجيلِ نفسه أوَّلَ لاعبِ وسطٍ، يهزُّ شباكَ المنافسين اللدودين تسعَ مرَّاتٍ، ويتوَّجُ بلقبِ الهدَّافِ، ويُهدي بلاده لقبَ البطولةِ، ويُهديني فكرةً بسيطةً وسهلةً ودون تعقيدٍ.. الفكرةُ تقولُ: ليس بالضرورةِ أن يكون هدَّافُ الفريقِ ونجمُه الأوَّلُ مهاجمًا ورأسَ حربةٍ، كما هو حال ماجد عبد الله وروجيه ميلا.. يمكنُ أن يفعلَ لاعبٌ، يركضُ في منتصفِ الملعبِ كلَّ شيءٍ، يُشبِعُ غرورك.. كان هذا مجرَّدَ مقدِّماتٍ، تتزحزحُ حولَ العبقريَّةِ المارادونيَّة.. فازَ بلاتيني بأقوى نسخةٍ في تاريخِ أوروبا.. أقولُ أقوى نسخةٍ، لأنها لم تكن تنتظرُ أي مفاجآتٍ.. كانت كلُّ مبارياتها، تشبه معركةَ الطرفِ الأغرِّ.. كلُّ نتائجها تقريبًا، انتهت بفارقِ هدفٍ واحدٍ.. بطولةٌ شرسةٌ، وصعبةٌ، وصاخبةٌ، وتحبسُ الأنفاسَ.. بطولةٌ لم يستطع الإنجليزُ، والطليانُ، والهولنديون الوصولَ إليها عقب تعثرهم في سباقِ التصفياتِ الأوَّليَّةِ، فيما فشلت ألمانيا في بلوغِ الدورِ الثاني.. بطولةٌ يُمكنك العودةُ إلى تفاصيلها الصغيرةِ حتى تعرفَ أن كرةَ القدمِ، اختُرعت لتكونَ عمليَّةً إنسانيَّةً حيويَّةً، يمارسها الكثيرون حول العالم، لكنَّ قلَّةً، يأخذونكَ في رحلةٍ بلاتينيَّةٍ، تجدِّدُ في عقلك الباطنِ تعاريفَ الموهبةِ الحقيقيَّةِ، والمهارةِ العبقريَّةِ، والقدراتِ الاستثنائيَّةِ.. قال حينها بلاتيني: هكذا تُلعَبُ كرةُ القدم..!!