وردة.. ونزار.. والألمان
إذا امتلأ قلبُك بالحبِّ، فيجبُ أن يمتلأ بالكراهيةِ.. هذه ليست قاعدةَ الحياةِ.. هي قاعدةُ كرةِ القدمِ.. الذين يقفون على الحيادِ ما هم إلا جوقةٌ من المدَّعين بـ «التطرُّب» مع فنونِ اللعبةِ الحلوة! يشوِّهون جوهرَ المنافسةِ التي تستندُ إليها هذه الساحرةُ في أدبياتها الوجوديَّةِ.. ولست أكره منتخبًا كرويًّا كما هي مشاعري مع كلِّ جيلٍ ارتدى قميصَ المنتخبِ الألماني.. منذ بطولةِ أوروبا عام 1984، وجدتُ قلبي يتجافى معهم، وبالطبعِ أملكُ سببًا مقنعًا ومهمًّا وجديرًا بالاحترامِ.. على الأقلِ أمامَ نفسي.. ألمانيا فرقةٌ قويَّةٌ، ومتمكِّنةٌ، ومنتظمةٌ، وتلعبُ كرةَ القدمِ بطريقةٍ تكتيكيَّةٍ صارمةٍ.. يفعلون ذلك على الرغمِ من تعاقبِ أجيالهم ونجومهم ولاعبيهم.. ربما هذا يفسِّرُ ظاهرةَ تصدُّرِ المنتخبِ الألماني قائمةَ المنتخباتِ الأقلِّ تغييرًا للمدربين طوالَ التاريخِ.. مدرِّبهم الحالي هانسي فليك، يحملُ الرقم 11 فيما يقربُ من 100 عامٍ.. نعم 11 رجلًا فقط، تولُّوا قيادةَ منتخبِ ألمانيا.. سيب هير برجر، أمضى لوحده 28 عامًا على رأسِ الجهازِ الفني.. لم يُدرِّب المنتخبَ الألماني أي اسمٍ قادمٍ من الخارجِ.. 100 عامٍ من العزلةِ.. هذه أشياءُ لا تحدثُ إلا عند الألمان الذين حوَّلوا كرةَ القدمِ إلى ما يشبه العقيدةَ العسكريَّةَ.. كلُّ شيءٍ بنظامٍ وانتظامٍ.. هذا ما جعلني أكره الكرةَ الألمانيَّةَ التي تفرِّغُ اللعبةَ من أصولها المحبَّبةِ إلى عوالمِ حساباتِ المكسبِ والخسارةِ.. كرةُ القدمِ واحدةٌ من أهمِّ وسائلِ التسليةِ والترويحِ والترفيه في حياةِ البشرِ، لهذا كلَّما كان اللاعبُ يقدِّمُ المتعةَ بواسطةِ مهاراته الخارقةِ، تتشكَّلُ حوله جيوشٌ من القلوبِ العاشقةِ والمفتونةِ.. ليس هناك لاعبٌ ألماني واحدٌ، يمكنُ تصنيفه بين أفضلِ 20 لاعبًا في التاريخِ على الرغم من أن الألمان يملكون أرقامًا باذخةً في البطولةِ الأوروبيَّةِ القويَّةِ، ومنافساتِ كأسِ العالمِ، ومئاتٍ من نجومهم الذين دافعوا عن شعاراتِ فرقٍ عريقةٍ، مثل الريال، والبرشا، ومانشستر.. صحيحٌ أنهم يملكون الهدَّافين، ولاعبي الوسط المتمكِّنين، والمدافعين الواثقين، وحرَّاسَ المرمى اليقظين.. لا يملكون لاعبًا مارادونيًّا، يتسلَّحُ بموهبةٍ خاصَّةٍ واستثنائيَّةٍ.. مارادونا، وكرويف، ورونالدو، وميسي، وبلاتيني، وباجيو.. هذه نماذجُ، لا تعرفها ألمانيا، ولا تملكها ألمانيا، ولا ترى ألمانيا ضرورةً لوجودها.. ألمانيا فريق التكتيك البنائي الأوَّلِ في العالمِ، وعبر التاريخِ.. فريقٌ يدخلُ الملعبَ لينتصرَ، ويغادرَ.. الفنُّ، وتصديرُ المتعةِ والإبهارِ، ليسا من بين أجندتهم.. وليس هناك أحدٌ، اختصر الحنقَ تجاه طبيعةِ أداءِ المنتخبِ الألماني الخانقِ، والمملِّ، والباحثِ عن النتيجةِ، والفوزِ بطريقةٍ كريهةٍ مثل نجمِ الكرةِ الإنجليزيَّةِ جاري لينكر، الذي قال بعد خسارةِ منتخبِ بلاده أمام ألمانيا في نصفِ نهائي مونديال 1990: «كرةُ القدمِ لعبةٌ بسيطةٌ، 22 شخصًا يطاردون كرةَ القدمِ في 90 دقيقةً، وفي النهايةِ يفوزُ الألمان»..!!
بالأمس تغلَّبوا على المنتخبِ الإسكتلندي بخماسيةٍ، جعلت الترشيحاتِ تغازلهم مبكِّرًا.. بالطبعِ، فوزٌ يفتقدُ لأي شيءٍ يدعو للمتعةِ.. وجدوا أمامهم فريقًا مشتَّتًا ومستسلمًا، ثم قضت البطاقةُ الحمراءُ على كلِّ آماله بالعودةِ والتعويضِ.. منذ قرابة 30 عامًا والألمان خارجَ معادلةِ القمَّةِ الأوروبيَّةِ.. يعودُ هذا ربما لسببَين أساسيين، أولهما العجزُ عن تغييرِ الرتمِ الكروي البطيء المتكئ على السيطرةِ الميدانيَّةِ، وتحويلِ لاعبي الوسطِ إلى قوَّةٍ دفاعيَّةٍ، ما يعني صعوبةً في وصولِ المنافسين إلى المرمى الألماني، والاعتمادِ على غزوِ الخصومِ من العمقِ بأكبر عددٍ من الأدواتِ، وهذا أسلوبٌ، يمكنُ ضربه بسهولةٍ بواسطةِ الارتدادِ السريعِ، والتركيزِ المباشرِ على الأطرافِ، والتحوُّلِ الهجومي الخاطفِ، وهذا ما كبَّد الألمان خسائرَ كثيرةً في أوروبا.. السببُ الثاني التنوُّعُ التكتيكي الذي تمتلكه عقلياتٌ تدريبيَّةٌ، تقودُ منتخباتٍ عريقةً في القارةِ المولعةِ بكرةِ القدمِ.. اليونان والبرتغال، دخلا في السنوات العشرين الأخيرةِ قائمةَ الذهبِ، فيما لا تزالُ ألمانيا غارقةً في أسلوبها القديمِ الذي بات كتابًا مكشوفًا، يسهلُ التلاعبُ بصفحاته.
الذي يكره المنتخبَ الألماني، سيتذكَّرُ عشراتِ المواجهاتِ الأوروبيَّةَ التي قتلوا فيها اللعبةَ، وخنقوا كلَّ علاماتِ الجمالِ، وتركوا أضدادهم يغنُّون مع الراحلةِ وردة الجزائريَّة في مقطوعتها الخالدةِ من ألحانِ رياض السنباطي، وبصوتها «المحزون»، وصرخاتها المتوجِّعةِ، وهي تقولُ: «كان لازم أكرهك».
الذي يحبُّ كرةَ القدمِ، ويعدُّ مبارياتها حفلاتٍ ماتعةً بالرفاهيةِ والأداءِ الراقصِ، فأهلًا به إلى جواري، وجوارِ السيدِ الإنجليزي المحترمِ جاري لينكر.. ستبقى لعبةً بسيطةً، 22 شخصًا يطاردون كرةَ القدمِ في 90 دقيقةً، وفي النهايةِ لعلَّ الألمان، يتجرَّعون الخسارةَ.. وإذا سمعت أحدًا يردِّدُ على مسامعكَ بيتَ شعرٍ عميقًا، كتبه الشاعرُ العربي الكبيرُ نزار قباني: «ماذا أقول إذا جاء يسألني.. إن كنت أكرهه، أو كنت أكرهه؟».. فقل له ما قاله جاري لينكر.. وقل له ما قالته وردة.. وقل له ما قلته أنا.. والعياذُ بالله من كلمة أنا..!!