لا برازيل ولا أرجنتين..
منذ سبعين عامًا بالتمام والكمال لم تتغيّب أوروبا عن نهائي كأس العالم.. طرف أوروبي ثابت في الختام المونديالي.. أحيانًا كثيرة التقى أوروبيان كبيران في المعركة الأخيرة يتصارعان على اللقب الدولي الأول والأهم.. فماذا يعني هذا؟
يعني بوضوح واختصار أن القارة العجوز هي سيدة كرة القدم.. وهذه لا تحتاج إلى تفصيل وشرح وإيضاح.. الذي قد يحتاج بالفعل إلى شيء من التفسير والكلام والإسهاب هو القول بأن بطولة الأمم الأوروبية هي المنافسة الأقوى والأشرس.. والسبب أن 90 في المئة من المشاركين في البطولة الأوروبية لا غرابة في تحقيقهم اللقب.. قرابة ثمانية منتخبات تدخل البطولة حاملة بين كفوفها سيلًا من الرهانات والترشيحات.. في كأس العالم يبدو أكثر من ثلثي المشاركين محالًا عليهم الاقتراب من النهائي.. كافة المنتخبات الأوروبية تخضع لقيادات فنية كبيرة في عوالم التدريب والتكتيك وإدارة اللعب وقراءة الخصوم والقدرة على المباغتة وتنوع الأداء.. الكرة الأوروبية خليط متمازج بين المهارة والقوة والسرعة والتنظيم الدفاعي والسيطرة الميدانية والغزو من الأطراف واختراق العمق.. المدارس التكتيكية المولودة في الأراضي الأوروبية باتت هي النموذج الحيوي الناجح بين كافة نظيراتها حول العالم.. البرازيل بكل جبروتها الكروي وتاريخها الموغل في أعماق اللعبة ها هي تفتش بين وجوه المدربين الأوروبيين لفتح باب المفاوضات لقيادة راقصي السامبا، بعد أن أثبتت كل التجارب الحية في السنوات العشرين الأخيرة تراجع الفكر التدريبي في أمريكا الجنوبية.. حينما يقول نجم أوروبي إن بطولة اليورو أقوى من كأس العالم فهو يقول نصف الحقيقة.. أما الحقيقة الكاملة فتقول أن الفوارق شاسعة جدًا بين المنافستين.. كأس العالم بطولة تجتذب الأضواء الكثيرة، وهذا أمر طبيعي، لكنها في ذات الوقت تشهد مفاجآت لا تتوقف، ويعود هذا إلى تنوع المدارس الكروية المتباينة، إضافة إلى أن هناك منتخبات من الدرجة الثانية والثالثة تتسلح بروح لاعبيها ثم تقفز إلى مواقع بعيدة في المشوار الصعب، كما فعلت كوريا الجنوبية في مونديال 2002، وفعلت المغرب في المونديال القطري.. هذا أمر لا تشاهده في أوروبا.. مرة واحدة فقط عرف الأوروبيون ما يمكن وصفه بشيء خارق للعادة، وذلك بفوز اليونان باللقب عام 2004 أمام البرتغال المستضيفة، وهذه حادثة تحتاج إلى كلمات ممتدة وطويلة، وسأعود لتناولها في الأيام المقبلة إذا أمدَّنا المولى بعمر جديد..
القيمة السوقية والقدرة على صناعة الفوارق هذه تتعالى فيها المنتخبات الأوروبية حتى في مواجهة البرازيل والأرجنتين.. الأرجنتين مثلًا الحائزة على المونديال الأخير ليس لديها لاعب تتهافت عليه الأندية الأوروبية.. ميسي يعيش أيامه الأخيرة بهدوء في أمريكا.. الأرجنتينيون الصغار لا يكادون يحجزون مقعدًا أساسيًا في تركيبة الأندية التي يمثلونها.. ريال مدريد تعاقد أخيرًا مع الفرنسي مبابي، ورجحت كل الآراء الفنية أن مكان أهم لاعب برازيلي في الوقت الحالي فينيسيوس بات مهددًا في قائمة النادي الملكي.. تلك مجرد أوراق متطايرة في الهواء تثبت ولو من مكان لا يُرى بوضوح أن الكرة الأوروبية تجاوزت وبمراحل كل القريبين منها.. هذا يعني وأيضًا بوضوح أن البطولة الأوروبية هي وحدها القادرة على تقديم الوجه الضحوك لكرة القدم.. بعد أيام في أقاصي الدنيا ستنطلق بطولة كوبا أمريكا.. كان الناس يتابعونها من أجل مارادونا ونجوم البرازيل.. اليوم تبقّى ميسي في الرمق الأخير.. البرازيل ليس لديها نجوم لامعة لدرجة الفتنة.. بطولة سيكون أجمل ما فيها تنظيمها وملاعبها، لأنها باستضافة أمريكا.. لا بلاعبيها.. الوقت الموحد في البطولتين سيوضح المسافة البعيدة..
بطولة أوروبا هي كرة القدم الحقيقية.. هي الوجه المضيء حينما يغشى أطراف اللعبة ليلٌ بهيم، وحينما ترتفع أصوات المتشائمين على مستقبل هذه الصنعة الممتعة.. هذا كلام كان يفترض بي قوله مبكرًا، وقبل أن تبدأ حفلات الإبهار اليومية.. ما كان يستوجب أن أتأخر إلى هذا الوقت.. لكن خفت من التأخير أكثر وخفت ألا أقوله.. إنها أوروبا التي تجعلك مشتتًا بماذا تبدأ وبماذا تنتهي.. وحينما تستقر، لا تكون مضطرًا لإثبات المثبت..!!