إيطاليا.. الصغيرة والفقيرة
بطبعي لا أحب الدفاع، والكرة الدفاعية، والطريقة الدفاعية.. وكل الأندية والمنتخبات التي عشقتها في حياتي تبدو دائمًا لا تعرف كيف تدافع، ولا تعرف التعاطي مع هذا الدفاع.. تعرف فقط معنى أن تلعب كرة القدم من أجل تسجيل الأهداف، وهذا لا يتأتى إلا بالهجوم بكل وسائله وطرقه وأساليبه.. البرازيل سيدة أسياد الهجوم لا تعرف كيف تذود عن مرماها.. إذا تمكن أي مدرب من اختراق تحصينات الوسط البرازيلي المتأخر فسيجد الدروب معبدة ليهز الشباك الصفراء.. فعلها الألمان في مونديال 2014 وحولوا البرازيليين أمام أنظار جماهيرهم إلى دمى تحركها الأصابع الخفية.. سجلوا سبعة أهداف في ليلة مذلة لا تمسحها ذاكرة مهما طالت الأيام.. لهذا استوجب على من مثلي حبها حبًا جمًا..
على الطرف الآخر من العملة الصعبة، تلك الفرق التي دائمًا ما تراهن على الدفاع تتحول إلى ما يشبه القاتل المأجور في بحثها المتردد عن هدف يزعزع الخصوم.. إيطاليا سيدة أسياد الدفاع، لا تعرف كيف تسجل هدفًا حين يعز عليها الوصول لمرمى أضدادها، وحينما تصبح بحاجة هدف كما تحتاج الأراضي الجدباء لهطول الأمطار تتحول إلى رماد اشتد به الريح في يوم عاصف.. لهذا يفترض علي وعلى من مثلي كراهيتها كراهية العمى.. بالأمس ذهب لاعبو سويسرا إلى استراحة ما بين الشوطين متقدمين بهدف في أولى مواجهات المغادرة الطارئة والسريعة أمام الطليان في البطولة القوية التي تستضيفها ألمانيا هذه الأيام.. كان الآزوريون يمنون النفس بتعديل سريع يساوي موازين القوى، وإعادة الأمور إلى نقطة الصفر.. ولأنهم يعرفون في ثقافتهم الوجودية ماذا يعني الدفاع، فإنهم كذلك لم تعلمهم السنين المديدة ماذا يعني الهجوم العشوائي.. دخلوا الشوط الثاني كالتائهين في صحراء قاحلة لا يعرفون أين طريق الأمان.. اصطفوا على خط المنتصف وانطلقوا كاللاهثين وراء فريسة متعبة.. انطلقوا بشكل جماعي في مشهد لا يليق بمنتخب يصنّفه التاريخ بين عظماء كرة القدم.. الإيطاليون متأخرون بهدف وحيد ولديهم خمسة وأربعون دقيقة يمكنهم خلالها هز شباك المنافس بمثنى وثلاث ورباع، فلم يكونوا مصعوقين بنتيجة كبيرة تستدعي كل ذلك الاستعجال والمغامرة.. ارتدت الهجمة وبهدوء تام تناقل لاعبو سويسرا الكرة وسددها لاعبهم نافارين وسكنت الشباك وانتهت الحفلة الإيطالية سريعًا، كما ينتهي الجائع الملهوف من التهام قطعة بيتزا ساخنة..
إنه الدرس الثابت في كرة القدم المتقلبة.. لا تكسب بالدفاع وحده.. لا تكسب بالهجوم وحده.. هي لعبة التوازنات، بعيدًا عن حكاوى الحظوظ والتحكيم وأشياء أخرى ربما لا يستساغ وضعها كمنهج يمكن البناء عليه.. خسرت إيطاليا لسببين رئيسيين.. أولهما أنها دخلت المواجهة متحصنة بشموخها وأذرعتها الطويلة وسمعتها وصيتها في أذهان العالم.. ثم ارتباكها في التعاطي مع التأخر الذي عده اللاعبون والمدرب مثل خبر الموت المفاجئ.. لو كان الطليان لديهم الخبرة الكافية بالتعاطي مع كيفية الهجوم في حالة الخسارة، لعرفوا بهدوء وثقة العودة إلى المباراة دون كل ذلك الارتباك المتهور..
خسرت إيطاليا.. ومن جديد تذهب مدارس الدفاع إلى الهاوية والسقوط حينما تصبح الحسبة السليمة تستقيم بالهجوم فقط..
اجتاح الغضب إيطاليا من تداعيات الخسارة الموجعة.. كتبت صحيفة «لا ريبوبليكا» عنوانًا يصف الحال: إيطاليا الصغيرة تعود إلى البيت.. بنفس هذه اللغة القاسية تكتب صحيفة «كوتيديانو سبورتيفو»: إيطاليا الفقيرة.. انتهى كل شيء..
فقيرة وصغيرة.. كلمات جارحة وقاسية، والسبب كان بسيطًا.. فريق الدفاع لا يعرف الهجوم.