الزير سالم و أركونادا
لو قيل لك إن هذه الحياة ماهي إلا مجموعة من الديون والثارات المؤجلة وتصفية الحسابات المتأخرة، فلا تستخف بالفكرة واحترمها وتعاطى معها بشيء من الممكن على أقل تقدير.. ذاك في مجمل حياتنا وأيامنا وليالينا.. وكرة القدم بكل شموليتها وتجلياتها ونفوذها هي واحدة من تلك الزوايا التي تستعرض فيها قدراتها كلعبة إنسانية حيوية متقدمة يمكنها اختصار تركيبة الحياة كلها.. وهذا ما قالته الفرحة الإسبانية الصاخبة بإزاحة الفرنسيين عن المنافسة الأوروبية، ومواصلة الطريق نحو عرش القارة العجوز الذي بات قاب قوسين أو أدنى من مدريد وأهلها وناسها.. تبقى لهم المنعطف الأخير في النهائي الصعب، والذي إذا كسبه الإسبان فسيكونون الأكثر حصولًا على اللقب الأقوى في عوالم كرة القدم بعد توازيهم سابقًا مع الألمان بثلاثة ألقاب لكل منهما.. بالفعل هذا العالم في أحد أوجهه ترفع الثارات هاماتها حين يحين الرد في وقت قد يكون مناسبًا.. وكما يقول الشوام عمر الأسى ما يتنسى.. قبل أربعين عامًا بالتمام والكمال التقت إسبانيا بالفرنسيين في واحد من أكثر نهائيات بطولة الأمم الأوروبية صخبًا وتحديًا وأحداثًا متسارعة، ويومها عرفت باريس كيف تفرح المدن الكبيرة بواسطة كرة القدم لأول مرة في تاريخها، فيما عاد الإسبان إلى ديارهم يجرون أذيال الخسارة والخيبات الكاسرة.. على رأس العائدين بالهزيمة الموجعة الحارس الأسطوري لويس أركونادا، الذي يمثل حتى اليوم نموذجًا استثنائيًا في حماية الشباك في ذهنية كل حراس بلاده، لكنه في ذات الوقت أظنه كان الأكثر فرحًا بين أبناء جلدته والفرنسيين يغادرون الملعب منكسرين ومهزومين وغير قادرين على الوصول للختام.. في العام 1984 قاد أركونادا الإسبانيين بثقة وجدارة وحضور ذهني فطين إلى النهائي، وكان أهم ورقة تراهن عليها إسبانيا بأسرها.. وصلوا إلى دور الأربعة أمام الدنمارك وذهبت المواجهة لضربات الحظ الترجيحية، وتألق أركونادا وطار بمنتخبه إلى النهائي لملاقاة فرنسا صاحبة الضيافة المتحفزة بقيادة أعظم لاعب في تاريخها ميشيل بلاتيني.. يتحصل الفرنسيون في الربع الأول من اللقاء على ضربة مباشرة خارج المنطقة.. يتقدم لها الأستاذ بلاتيني.. يرسلها ضعيفة وزاحفة في أقصى الزاوية اليسرى التي يتمركز فيها أركونادا.. يتوثب هذا الحارس العملاق لاحتضان الكرة السهلة.. تفلت من بين يديه وتعبر لمعانقة الشباك هدفًا فرنسيًا فتح الأبواب المؤصدة لفرحة ما كانت فرنسا تعرف أجواءها وطقوسها.. بعد مرور أربعين عامًا على الحادثة وبعد بلوغ أركونادا السبعين في تعداد الأزمنة والسنين، يعترف هذا الرجل الذي توقف بعد سنة من خسارة أوروبا ذلك العام، بأن هدف بلاتيني ظل طوال عمره يطارده كالكوابيس المرعبة.. في العام 2012 يصل الإسبان للنهائي الأوروبي ويرسل بلاتيني الذي كان حينها رئيسًا لاتحاد القارة، الدعوة إلى أركونادا ليحضر مواجهة منتخب بلاده أمام إيطاليا والتي انتهت كما هو معروف برباعية إسبانية نظيفة وصاعقة على حساب الطليان.. ينزل أركونادا إلى أرض الملعب لتهنئة المنتخب واللاعبين.. يجد الحارس الثالث للمنتخب أندريس بالوب مرتديًا قميصه الذي كان يحمله في مباراة الدنمارك قبل أربعين عامًا.. يفاجئه المشهد.. يروي بالوب القصة بأنه حصل عليه من أركونادا بعد تألقه أمام الدنمارك، فيما بالوب حينها كان صبيًا صغيرًا.. يفرح أركونادا بالفوز الإسباني ويستعيد ذاكرة بعيدة.. قميصه أمام الدنمارك وفوز بلاده وضربة بلاتيني.. أشياء يختلط فيها الفرح بالأحزان البغيضة في مشهد واحد..
الآن ينتصر الإسبان على الفرنسيين أنفسهم.. يأخذون ثأر أركونادا.. يصلون للنهائي.. يقتربون أكثر من اعتلاء الرقم القياسي.. إنها الصورة الحية التي تجعل كرة القدم كفيلم سينمائي عربي يطارد فيه الممثل البطل «ثأرًا بايتًا» سنين عددا.. وعندما تحين تصفية ما في النفوس يكون الزمان قد ارتدى ثوبًا أكثر لمعانًا لا يستوعب فكرة الثأر من أساسها.. كما هو حال أركونادا، وقد رد صبي يدعى لامين يمال له شيء انتظره طويلًا فيما رأسه قد غزاه الشيب بالكامل.. اكتملت فرحتك المتأخرة يا أركونادا.. تبلل قلبك بالثأر.. دمعت عيناك في ليلة يذهب مبابي وجريزمان وتشامب إلى صالات المطار.. وتبقى أنت على مقعد وثير تترقب حلم النهائي.. ما أجمل الثارات يا أركونادا حتى وإن جاءت في الزمن الضائع.. إنه مشهد هارب من مسلسل الزير سالم وقصته الأسطورية.. يا لثارات الزير.. يا لثارات أركونادا..!!