أمنيات شاعر!
الأجواء لطيفة، رائقة، والحمد لله، فلنكمل ما بدأناه بالأمس، يمكن لمن لم يقرأ مقالة "حبيب ومنزل" العودة لقراءتها، كنت أتحدث فيها عن أربع أمنيات للشاعر، لكن امرئ القيس أخذ المساحة كلها، والخلاصة أن الأمنية الأولى لكل شاعر هي أن يكون "الأول"، حامل اللواء، أن يكون "امرئ القيس" دون أن يكرره، ودون أن يتبعه!. أمّا لماذا أخذ امرئ القيس نصف المساحة، والبقية نصفها الثاني اليوم، فلأن البداية نصف الطريق، كان أفلاطون مُحقًّا!.
ـ الأمنية الثانية، هي أن يكتب الشاعر قصيدة عظيمة، خالدة، لا يحدّها زمان ولا مكان، تطوي الأزمنة والأمكنة تحت جناحيها وتطير!. يكتبها ثم يترك الدنيا، وحبذا لو كانت حكاية موته مدويَّةً!. فإذا كان امرئ القيس بطل الأمنية الأولى، فلا أحسب إلا أن "طرفة بن العبد" بطل الأمنية الثانية، ونموذجها الأكمل!.
ـ هل كان "طرفة بن العبد" يجهل حقًّا، ما في الرسالة القاتلة؟!. أشكّ كثيرًا!. كان يدري أنه ذاهب إلى مقتله، لكن الدنيا كلها لم تعد تعنيه في شيء، ربما بحث بنفسه عن انتحارٍ لا يُتَّهَم فيه بجُبن أو رذيلة!، ما الذي بقي له من الدنيا ولم يتحقق؟!، لقد كتب القصيدة الأعظم!.
ـ همست له القصيدة: "ما أقرب اليوم من غدِ"، هذه هي الرسالة الحقيقية التي قرأها، والتي تهمّه حقًّا، كل ما أراده بعد ذلك هو أن تظل قصيدته وفيَّة مخلصةً!.
ـ أوصاها: "ولا تجعليني كامْرِئٍ ليس همّه.. كهمّي، ولا يُغني غنائي ومشهدي"!، ولمّا ضمن بكتابته لهذه الرائعة أنها ستظل وفية بالوعد مخلصةً له، لم يعد له ما يمكن العيش لأجله!. أمنية كل شاعر أن يكتب قصيدةً تمنحه مثل هذا الشعور، بعدها يرحل بسلام!.
ـ الأمنية الثالثة للشاعر، أن يكون كما كان أحمد بن الحسين "المتنبّي"، يأتي بعد كثيرين فلا تظنه إلا قبلهم، ويأتي بعده كثيرون فلا تظنّه إلا بعدهم!. يشغل الدنيا بأشعار، لا تترك من الجمال ولا من الخيال شيئًا إلا وقد انتبذت المكان القصيّ فيه!.
ـ أمنية الشاعر الرابعة، أنْ يكون مثل "أحمد رامي"!. يكتب، وقبل أن يجف الحبر، قبل أن تكتمل القصيدة حتى، يكون ثالث ثلاثة، بين "السنباطي" و"أم كلثوم"، هذا يُموسِق له الدنيا، وهذه تُدندن وتترنم بكلماته!. ركّزوا وتخيّلوا فقط، هذه أم كلثوم، وهذا السنباطي!.
ـ لا أظن أن شاعرًا عربيًّا عاش حياةً أعذب من هذه الحياة، إن العيش داخل "بروفات" أغنيات كهذه، بالذات "البروفات" والتحضيرات الأولى، ثم من الألِف إلى الياء، هديّة من السماء، لا أظن أن الكتابة الإبداعية تكفي لإيجادها، تحتاج إلى قلب طيب ونفس طاهرة ودعاء ساخن صادق مُتقبّل!.