بيت الشعر وبيت الشاعر!
ـ الكلمات، بحدّ ذاتها، ليست تأويلًا، قراءتها هي التأويل!.
ـ أمّا الكلمات نفسها فهي نهاية تأويلات وحاصل جمعها!، فما دامت قد كُتِبَتْ فقد حَدَّدَتْ وخَلُصَتْ إلى مرادها، بدءًا من جملة الصحافة وانتهاءً بأقصى تدفّقات الشعر المسموح لها بكل التجاوزات!.
ـ الكتابة صناعة بشريّة، أما القراءة فهي خَلْق إلهي!.
ـ صُنِعت الكتابة للتحديد، وخُلِقَتْ القراءة للتجاوز!.
ـ بدءًا من التعليم المدرسي: "مع حمد قلم"، ولا انتهاءً بأنشودة المطر: "عيناكِ غابتا نخيل"، كل كتابة هي تحديد، ما أرادت أن تقوله المدرسة هو حرفياً: مع حمد قلم!، وما أراد السياب قوله هو تحديداً: عيناك غابتا نخيل!. الكتابة في الحالتين، في التعليمي وفي الشاعري منها، حدّدتْ!، والفروق في القراءة!.
ـ القراءة هي التي تمنح قول السياب، كثافته، لكنها قراءة مزدوجة: قراءة السياب أولاً، وقراءاتنا لما كتب أولًا أيضًا: التأويل نتيجة "أوّلين" ليس فيهما ثانياً!.
ـ من بين كل الفنون: الموسيقى وحدها، وحدها بمعنى الكلمة، هي التي تبدأ من التأويل وتذهب إليه وتتحرّك من خلاله، يليها بمراحل فن الرسم، عباقرة الرسم قرّبوا المسافات ونجحوا في القفز وتجاوز كثير من المراحل عمومًا!، وتأتي الفنون الكتابية بعد ذلك، وأعلاها شأنًا الشعر، فقد كان أشدّها فِطْنةً، إذْ تمسّك بالموسيقى تمسّك الرضيع بأمّه!.
ـ الموسيقى هي التي أكسبت الشعر حكمًا "شرعيًّا" بالبراءة: "يقولون ما لا يفعلون"!، تبعه حكم اجتماعي: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره"!.
ـ بهذين الحُكْمين تخلّص الشعر من ثقل الجاذبيّة الأرضيّة للواقع، للمنطق، ونبتت له أجنحة، ولا أظن أن فضل الموسيقى خافٍ في الحُكْمين!.
ـ حين يقول بندر بن سرور: "الله خلق في الأرض ثلثين برّي.. يغنون عن ثلث البحر ويش ابي به"، فإن القول لا ينسحب إلى، ولا على، الحقيقة الجغرافية، ولا الواقع العلمي، ولا المنطق المبني عليهما!، الموسيقى تنقذ القول من كل ذلك، وتذهب بنا إلى أنّ الشاعر مصدر حقيقة خاصة به، فالأرض بالنسبة لشاعر "بدوي" لا يمكن لها أنْ تكون محاطة بالماء لهذه الدرجة التي يؤكدها الواقع!.
ـ لولا الموسيقى، لجُلِد عمر بن أبي ربيعة، ومَرّ سيف على رقبة المعرّي، وهُدَّ على رأس أبي نواس جدار!.
ـ لولا "بيت" الشعر لخَرُبَ بيت الشاعر!.