الحوار الحقيقي.. قراءة لا مشافهة!
العدد الأقل من الناس هو الذي يمتلك فكراً، وقدرةً على عرض هذا الفكر..
ـ العدد الأكبر من الناس يمتلكون القبول والرفض، قد يكون الأمران عن قناعة، لكنها قناعة غير مفكِّرة!، أو ربما عن قناعة لكن أصحابها غير مؤهلين لعرضها، لا يمتلكون كلمات مناسبة!.
ـ غياب الكلمات المناسبة لعرض الفكرة والرأي، لا يشوِّش الآخَر فحسب، لكنه يشوِّش صاحب الفكرة والرأي أكثر ممّا هو مُشوَّش أصلًا!.
ـ لذلك فإن العدد الأكبر من الناس يُفضِّل رفع الصوت!.
ـ ما إنْ يُرفع صوت في نقاش، حتى يُهمَل المعنى، يُداس تحت الأقدام أو يُركل بها!، تأخذ الحكاية منحىً آخر، تحيا الاستماتة دفاعاً عن الحنجرة لا عن الكلمات الخارجة منها!.
ـ عندما ترتفع الأصوات، وتتقاطع متلاطمةً، يصبح التوقف عن الحوار والنقاش جزءاً من الحكمة والفضيلة!، ويصير من الخير والمحبّة تغيير الموضوع!.
ـ إنّ اختيار موضوع طريف ومسلٍّ في هذه الحالة أوجب لحفظ الصحبة، حتى ولو كان على حساب أفكار أكثر أهميّة، هذا ما تحكم به جلسات المُشافهة، وهذا أحد معايبها الهامّة، خاصةً إذا ما قُورِنت بفضائل القراءة!.
ـ يُقال نفسيًّا، إنّ كل من يحتدّ ويرفع صوته في نقاش، إنما يحاول إسكات شيء في داخله هو أصلًا، أظنه وعبر الضجيج يحاول مسح وجه مهرِّج ساخر في داخله يمدّ لسانه هازئاً به، وجه لا يراه أحد سواه!.
ـ في القراءة، لا في المشافهة، تكمن الحوارات الحقيقيّة، حتى وإنْ هي أخذت شكل المَجاز، وحتى إنْ هي بدَتْ رأياً وفكراً من طرف واحد!.
ـ يعيب المشافهة أنّ الكلمة تختفي بانتهاء زمنها، فهي ما إن تُقال حتى تصبح ماضيًا، والمصيبة أنه ماضٍ غير مؤكَّد!،.
ـ ولا أظن أن أحدًا منّا لم يُجرِّب هذه الحالة: أنتَ قلتَ كذا، فيقول الآخر: لا لا تحوّر كلامي أنا قلت كذا!، فيرد الأوّل: لا قلتَ كذا!، وهكذا حتى تصبح كل كلمة سابقة عُرضةً لأنْ تُجلَب من جديد ثم لا تكون هي!.
ـ كما أنّ رفع الصوت، يمسح فعليًّا، الصوت الأقل ضجيجاً!.
ـ هذه الأمور لا تحدث في القراءة، بطبيعة ولطبيعة القراءة، فالكلمة السابقة موجودة، لا يمكن إنكار أو تزوير تاريخها لكونها صارت ماضياً في الزمن القرائي!.
ـ كما أنّه ليس في مقدور الكلمة مسح وإلغاء ما قبلها وما بعدها، لأنها ليست صوتية!، يمكن لها أن تكبر في الطباعة والخط، تكبر كما تشاء، لكنها في النهاية ستُقرأ بنفس المسافة الزمنية والمساواة الإيقاعية مع ما قبلها وما بعدها!.
ـ ليس في الكتابة كلمتان فوق بعضهما البعض!. ومع ذلك فإنّ كل كلمة لكاتب محكومة بكلمة لقارئ فوقها!، ومن هذا يُولد التأمّل المرتّب، لا التشويش الفوضوي، كما أنّ غياب مسألة القمع محسومة!.
ـ أخيراً: سبق أن شاهدنا، كثيرًا، أُناساً يتباهون كونهم يتحدثون بصوت خفيض مطمئن هادئ وواثق، لكنهم في حقيقتهم لم يفعلوا ذلك، ولم يَصِلُوا إليه، إلا بعد قمع بقيّة الأصوات قمعًا إرهابيًّا، ليس عن طريق رفع الصوت هذه المرّة ولكن عن طريق رفع السلاح: "أسامة بن لادن" مثالاً!.