بصمة مشاعر
حين نقع على شخصين متشابهين شكلاً، نتحدث عن الأمر وكأنه طُرفة، وهو بِحُكْم ندْرَته يدخل فعلاً خانة الطرائف، ونوزّع الصورتين بإسراف، على كل من نعرف، ومن لا نعرف!،.
ـ ها نحن نعترف إذن بأن التشابه، من حالات الاستثناء، هذا ونحن نتحدث عن مجرد شكل، بكل ما للشكل من حدود وإمكانيّات ضيّقة، الأمر الذي يسمح بوجود عشرة آلاف وجه يتشابه أصحابها في تقاطيعهم، مع ذلك نحتفظ بالمثل الشعبي: "يخلق من الشبه أربعين"، دلالة على أن الأربعين رقم كبير!، وتأكيداً على أن القاعدة هي الاختلاف والمغايرة واللا تشابه!،..
ـ فلماذا إذن كلّما تعلّق الأمر بالاختلاف في غير الشكل، انقلبنا على مفاهيم الفطرة، وحسابات العقل، وطبيعة الحياة، وتحرّكنا باستغرابنا في المسار الخطأ والمُعاكِس؟!، فنستغرب ممن خالفنا رأياً أو مفهوماً أو شعوراً أو ذائقة!،.
ـ وليتنا نكتفي بالاستغراب، لا، نحوّل استغرابنا إلى استنكار ورفض، وسرعان ما يتحوّل هذا الرفض إلى مُشادّة، كلامية أولاً، ثم "لكاميّة"!،..
ـ ألسنا أولى بالاستغراب من أنفسنا قبل أن نستغرب من مخالفة الآخر لنا؟!، ألم نكن قبل لحظات فقط نعدّ التشابه في الشكل الجسماني استثناءً، على ما في الجسمانيّة من قيود وعلى ما بها من ضيق أُقُق؟!،..
ـ لماذا إذن نستغرب من مخالفة الآخر وعدم تشابهه معنا فيما هو أوسع أُفقاً وأرحب بفوارق ومسافات ضوئية، وهل هناك مقارنة أصلاً بين ضيق الجسمانية بيلوجيّاً وبين رحابة المشاعر والأحاسيس والأفكار و"المعتقدات"؟!.
ـ نرجع للجسمانيّة نفسها، وهي تلك التي تتيح فرصاً واسعة للتشابه، فنكتشف، كلّما اقتربنا منها أكثر، استحالة ذلك الأمر، لا يمكن لبصمة الأصابع أن تتشابه، وكذلك الأمر بالنسبة لبصمات العيون والصوت، وبصمات أخرى!، فكيف نريد لبصمات المشاعر والعواطف والأحاسيس والفهم والإدراك والفطنة أن تتشابه وأن تتوحّد، وألا تنفلت كل واحدةٍ منها عن سواها بمسافات ومراحل؟!،..
ـ هذا مع يقيننا بأن الإنسان الواحد نفسه، قد تتقلّب مشاعره وعواطفه في اليوم الواحد أكثر من مرّة تجاه أمر بعينه ومسألة بذاتها، وأن الأفكار والرؤى والأخيلة والقناعات تتطور وتتغير وتختلف عما كانت عليه أكثر من مائة مرّة في العمر الواحد لهذا الإنسان الذي يمثّلها وتمثّله؟!.
ـ "يخلق من الشبه أربعين" نقولها تعجباً، ونحضر بحكمة أخرى: "خالف تُعرَف" نقولها استنكاراً!، رغم أن الأولى عقلياً ليست مثار تعجّب مُستحقّ، فما دام وجه الإنسان محدد بمساحة، وفي هذه المساحة أجزاء متشابهة الخلق والترتيب بأمر الخالق، فمن الطبيعي وجود التشابه وحدوثه آلاف المرات، بل إنه يكاد أن يكون عدم التشابه هنا أكثر مثاراً للتعجب!، بينما نقول الثانية "خالف تُعرَف"، دلالة على الرفض والاستنكار، رغم أن الإنسان خُلِق ليَعرف وليُعرف، وهو لا يمكنه أن يَعرِف ما لم يُخالَف، ولا يمكنه أن يُعرَف ما لم يُخالِف!.