الشعر والرواية وكريستيانو رونالدو!
يقدر أي لاعب كرة سَلَّة عادي، على القول بأنه يسجّل أهدافاً أكثر من كريستيانو رونالدو في كل مباراة، غير أنه بعدها سيكون مَثَار تندّر من الصحافة والناس، رغم أنه لم يكذب ولم يقل غير الحقيقة!، ذلك لأنه قفز من الأساس قفزة خاطئة، وراح يتعامل مع لُعْبَتَيْن مختلفتين بمقياس واحد!..
صحيح أنهما لعبتان وتجمعهما صفة الرياضة، لكن هذا لن يحول بين من يقول ذلك وبين سخرية الناس منه، ليس لأن قوانين كل لعبة مختلفة عن الأخرى فحسب، لكن وهذا هو الأهم لأن طبيعة كل لعبة، مختلفة تماماً عن طبيعة الأخرى!.
ـ لكن فيما لو قيل نفس الكلام، من نفس اللاعب، وكان الطرف المستمع، المتلقّي، جاهلاً بخصائص كل لعبة، وحدود معرفته تتوقف فقط عند كون كل منهما لعبة بين فريقين في جلد منفوخ يدخل في مرمى!، ولا يريد مزيداً من المعرفة في هذا الأمر، فإنه حتماً لن يجد في كلام صاحبنا لاعب كُرَة السّلّة ما يستأهل التّهكّم عليه، وسيُقر له بالصواب، وسيعتمد الأرقام حجّةً على صحّة القول!،
وبالنسبة لنا، فإن أغلبيتنا ما لم نكن جميعنا، سنجد في هذا "المتلقّي" ما يثير السخرية والتّندّر والتهكّم أكثر مما وجدناه في صاحبنا لاعب كرة السَّلّة!.
ـ نخرج من المثال السابق، وندخل الآن في الآداب والفنون، ونأخذ الرواية والشعر لتجريب الأمر على أفكارنا ومعتقداتنا وآرائنا، وبالتالي على ذائقتنا وأحكامنا الجماليّة، نكتشف أن معظمنا، العدد الأكبر والأكثر ضجيجاً وصخباً منا وفينا وعلينا، إنما يُشبه إلى حد بعيد ذلك المتلقّي الذي كان مثار سخريتنا قبل لحظات قليلة فقط!.
ـ لا يمكن للشعر إلا أن يكون فناً "وَزْنيّاً" من حيث هو فن موسيقي في أصله، في المقابل لا يمكن للرّواية إلا أن تكون فنّا "نثريّاً"!.
ـ يمكن للشاعر أن يحكي وأن يَقُصّ، غير أنّ الرّوائي ما أن ينشغل بالأوزان، ما أن يُدخل موسيقى الشعر ويلتزم بـ "نظمها"، حتى يكون قد كسر الوزن الروائي!.
ـ وزنُ الرواية في نثرها!،..
ـ المسألة هنا ليست إطاراً خارجياً، ولا بروازاً للوحة، المسألة هنا لا تحتمل خَيَارَات، لأن الخيارات هنا غير مُتَاحَة أصلاً، فلكل فن من الفنّيْنِ طبيعته وشروطه الداخلية!.
ـ بل ربما كان بمقدور الشاعر تجريب مهاراته خارج الوزن "الرسمي"، دون أن يكون في ذلك خيانة لفن الشعر أو جهالة به، مع ملاحظة أن جميع من جرّبوا قصيدة النثر، حاولوا حماية وجودها بالحديث عن "الموسيقى الداخليّة"، وهي على أي حال كلمة مطّاطة عائمة، أمينة بقدر ما هي مخادعة!،..
ـ لكن محاولة وزن الرواية بميزان الشعر، ونظْمها على منواله، خيانة عبثيّة لأصل العمل الروائي، وجهل أعمى في ماهيّة الرّواية ذاتها!، وخنق لروح الرواية!،..
ـ روح الرّواية نابعة من المُعَاش واليومي، و"المنثور مادِّيّاً" في الدروب، بإهمال وسذاجة، وتقويس "المنثور مادِّيّاً" مسألة مهمّة للكشف عن طبيعة الرواية كفنّ نثري أصلاً وفصلاً!.
ـ في كتابه "الستارة"، يضيء ميلان كونديرا هذا الفارق الأصيل، الجذري، بين الشعر والرواية، بشكل موسّع وعميق، لكنه يضيف فارقاً آخر، لا يقل عمقاً وروعة، ومن خلاله يتأكد لنا اختلاف الدروب والقُدُرات في الموهبة ذاتها بين الشاعر والروائي: "حتى يستطيع الرّوائيّ التِقاط الصوت الخفيّ، الذي لا يكاد يُسْمَع، لروح الواقع، عليه أن يعرف، بعكس الشاعر والموسيقِيّ، كيف يُسْكِتْ صرخات روحه الخاصّة"!.