ما قبل الكتابة بلحظة!
ـ تكون لديك أفكار، وفي المقابل لديك لغة، غير أن الجمع بينهما ليس سهلاً، حتى في تلك اللحظات التي تحس فيها أن عيون اللغة وعيون الفكرة يحملقان في بعضهما البعض!.
ـ لا تدري من أين تبدأ، لكنك تستمر في المحاولة، ليس بالضرورة أن يكون معنى المحاولة أو الاستمرار فيها أنْ تُمسك بورقة وقلم أو تظل فاتحاً جهاز الحاسوب على خانة الكتابة، المسألة تكون في اللا وعي غالباً، فقط أنت تعرف بأنك خُلِقت للكتابة، وتسمّي لحظة الجمع الآتية إلهاماً، وتسمّيها وَحْياً، دون أن تنتبه لحركة بسيطة، مُهْمَلَة، ساذجة، وقد تكون متكررة يوميّاً، لكن هذه اللحظة هي التي غمزت للكلمات، ولكزت كتف الفكرة للتقدّم خطوة أو خطوتين لقبول المُصافَحَة!.
ـ أحياناً لا تكون هناك علاقة مباشرة بين حركة الأشياء من حولك وبين الكتابة فكرةً ولغةً، كأن تهتز أوراق شجرة بفعل هَبَّة نسيم عابرة ومُنقطعة، فتكتب عن فلسطين أو عن مباراة كرة قدم، أو تكتب قصيدة غزل!، لا تعترف لاهتزاز الشجرة بفضل، لأنك لا تُحسّه، لكنني أظنه موجوداً، بشكل أو بآخر هو موجود، وبدرجةٍ أو بأخرى هو أحد أسباب دخولك الفعلي في العمل الكتابي!.
ـ علاقة الشجر بفلسطين مسألة غائصة في طفولتك، في كتبك المدرسيّة وفي كلام مُعلّمي الجغرافيا والتاريخ، ربما في صوت المذياع صباحاً!، مرونة أوراق الشجرة واهتزاز أغصانها ربّما التقت فجأةً بمرونة لاعب كرة قدم تحبّه، حتى لو لم تتذكّره، وحتى لو كنت تكتب عن مباراة لا دخل له فيها!، هَبَّة الهواء وتمايل الأعواد ربّما ذهبت بك إلى رائحة امرأة في ذاكرتك أو في خيالك، وعُجِنَتْ دون درايةٍ منك بطريقتها في المشي، وبرشاقة القوام وتمايله، ربما ذابت في مراوغاتها الفاتنة، فهيّأتك للقصيدة!.
ـ يمرّ رجل من أمامك في صالة المطار، يحمل حقيبته بطريقة خاطئة، يُرهِقه الأمر، يقرر تغيير الطريقة، يُنزِل الحقيبة على الأرض، يُمسكها من عُرْوَتها، يتحسس موضع العصا، يضغط عليه، يمتدّ مرّة، ثم مرّة أخرى، يسحبها منه، ويجرّها خلفه بسلاسة ويُسْر، بينما عجلاتها الصغيرة تدور بمرونة لافتة، الصُدفة وحدها جعلت من هذا المسافر يقف أمامك أنت بالذات ليغيّر طريقته في حمل الحقيبة، لكنك تنتبه للحركة، في نفس الوقت الذي يكون فيه فكرك مشغولاً بكتابة مادّة لمطبوعتك، تقرن بين الأمرين، دون أن تنتبه، أو بانتباهةٍ لا يُنتَبَهُ لها!، فتكتب موضوعاً فلسفياً، أو عن المنطق، أو عن الطبيعة، أو أي شيء آخر، المهم أنك ستكتب فيه شيئاً قريباً من هذا: كثير مما نحمله في صدورنا قد يكون أقل همّاً مما نظن، فيما لو عرفنا الكيفيّة الأنسب لحمله، والأفضل للسير به، والأطيب لصُحْبَتِه!.
ـ وربما فَتَحَتْ لك الجملة السابقة، فكرةً أطيب، فمسحتها بعد الكتابة، أو مسحتها من رأسك قبل الكتابة، وشَرَعْتَ تُزاوج لغتك التي بدأت تنهمر، بالموضوع القافز من شبه المجهول، إلى شبه المعلوم فجأةً، أبحرتَ بعيداً، بعيداً!، وكتبت عن علاقة حب فاشلة لا تقدر على نسيانها!.
ـ هناك في الطرف الآخر قارئ، قارئ جدير حقاً بوصفه قارئاً، ولسوف يكون بحاجة لحركة من الخارج، حركة ساذجة، مُهمَلَة، كأن يندلق فنجان قهوة أمامه قبل القراءة، لا يدري ما علاقته بما سيأتي، لكن ما سيأتي، هو أن يقرأ في نصّك: مسافراً عرف في منتصف الطريق كيف يحمل حقيبة سفره!.
ـ لا يتعلّق الأمر باللحظة أو الحركة السابقة تماماً وعلى طول الوقت، كل اللحظات وكل حركة سابقة عشتها طيلة عمرك، تدخل بشكل أو بآخر، تندمج وتنعجن مع لاحقاتها: في لحظة الجَهْر، الحياة السِّرِّية لكل الأشياء السِّابقة تتحرّك باتجاهك، وتحدّده!.
ـ وإنك حتى حين تفلح بتنحية أمر، أو ألف أمر، جانباً، فإن عشرة آلاف أمر، يُطِلّ كل منها برأسه ويحاول تقويس ساقيه ليتمكّن من الدخول: في الكتابة، في الفن عموماً، أنتَ لا تتقدّم إلّا باقتفاء آثارك!.