ذكريات رجل كثير النسيان!
عندي مشكلة في معرفة الوجوه، يمكن القول إنها أكثر من مشكلة وأقل من مَرض، أو لعلّها مرض، المهم أنني لا أحتفظ بملامح الناس طويلاً، حتى المقرّبين منهم، خاصةً إذا ما لبسوا زيًّا مخالفًا لزيّهم الذي تعوّدت عليه، ثم لقيتهم في غير الأماكن التي اعتدتُ لقياهم فيها أو قريبًا منها!.
ـ هذه الحالة شبه المَرَضَيَّة لازمتني طول عمري، ولها معي حكايات محرجة، وحكايات طريفة، وحكايات غريبة، ذكريات، سأقصّ عليكم من كل واحدة حكاية، ونبدأ بالمُحرِجَة:
ـ أعرف خالد المريخي جيدًا، شاعر نجم، وشاب في غاية الوسامة، ومثل هذه الوجوه لا يمكن إلا حفظها، فوق ذلك كله، استعنت بالعديد من صوره على الغلاف يوم كنت رئيس تحرير مجلّة أسبوعية وأخرى شهريّة، وأكثر: سبق له أن أكرمني بقبول دعوة عشاء في بيتي، كل أبناء أخي يومها صوروا معه، يكفي هذا؟!، حسنًا، بعد أقل من ثلاث سنوات وقفت في بهو فندق في جِدّة، وسألت الجالس على المقعد: لو تكرّمت، أين المِصعد؟!، ابتسم الرجل وصافحني بحرارة، ومبتسمًا قال: "ما عرفتني.. أنا خالد المريخي"!،
حاولت الاعتذار، فوجئت بكرمه ورحابة صدره، أزال عني كل حرج بتفهّمه للأمر!، هل انتهت الحكاية؟!، لا، قبل أكثر من سنتين كنت وصديقي عبد الله الرويلي نتمشّى في دبي، جاءت عيني بعين رجل جالس على طاولة، أكملت وعبد الله المشي، لكنني قلت له تمهّل، أظن أن من على الطاولة عرفنا ونهض للسلام، التفتنا فإذا بما أظنه صحيحًا، سلّم الرجل، كانت مصافحة عبد الله له حميميّة تدلّ على معرفة أكيدة، صافحني بنفس الحرارة، ومن عيوني عرف ورطتي، ضحك وقال: "ما عرفتني.. أنا خالد المريخي"!، أقسمت له، فلم يسمح لي بتكملة القسم، قال: "لا والله ما صابتني ذرّة شك فيك"، ومن يومها وأنا أحكي هذه الحكاية كلّما جاء ذكر القلوب الصافية وسماحة الصدور وطيب الأنفس!.
ـ حكاية طريفة: كنت في بيروت، في مقهى يفصله عن البحر زجاج، أقرأ كتابًا كعادتي كل صباح، أوقفني عن القراءة صوت مرتفع لكنه يتلوّى، لرجل يُرحّب بي بتضخيم مصطنع، نهضت وصافحته، لم يترك يدي قبل أن يكرر السؤال مرات عديدة وبصيغ مختلفة: "بالله ما عرفتني؟!، معقول؟!، لا لا لا أصدِّق!، طيِّب تذكّر!، الله يا الدّنيا!"، مرّة تأسّفت لجهلي، ومرّة اعتذرت لتقصيري، ومرّة طلبت منه إعفائي من طول الحرج وتعريفي بنفسه، ومرّات لم أدر ما قلت فيها، الأكيد أنني في كل هذه المرات كنت أدعوه للجلوس فلا يقبل، وقد سحبت يدي من يده بعد طول صبر، ظل مصرًّا على ضرورة تذكّري له، كان صوته يعلو بعتب أكبر كل مرّة، ثم تحوّل العتب لملامات تحتد شيئًا فشيئًا، إلى أن صارت انتقادًا، الجارح فيه غير واضح، والواضح فيه غير جارح، ثم تحوّل الأمر لمقارنة في صالحه على مرأى ومسمع الجميع، فلم أُطق صبرًا أبعد من ذلك، قال: "كيف لم أنسك ولم تتذكرني، كيف عرفتك ولم تعرفني"، لحظتها انتهى الصبر والأدب وما حسبته لطفًا وتواضعًا، فقلت: "عزيزي أنا فلان.. ليس غريبًا أن يعرفني كثير من الناس، فلا تزايد ولا تثرثر أكثر، عرّفني بنفسك أو اتركني أريد أن أكمل القراءة"!،
العجيب أنه هدأ بعد ردي القاسي هذا، وأخيرًا عرّفني بنفسه: "أنا فلان صاحب مكتب الخدم الذي جئته قبل خمس سنوات تطلب شغّالة ورحّبت بك وقهويتك"!، يا الله، وهل تريدني أن أتذكرك بكل هذا الإصرار، وتلومني كل هذه الملامة، لعشر دقائق عابرة؟!، قلت له هذا الكلام وجلست ومضى!، وكلما تذكرت هذا الموقف ودمجته مع سماحة وأريحيّة خالد المريخي، ازددت حياءً من الشاعر العذب، وتأكد لي طيب منبعه وندرة أمثاله!.
ـ الحكاية الغريبة: بدأت معرفتي بالصديقين حيدر الجنيد ورمضان الكنعان، قبل سنوات، يوم أكرماني بزيارة في بيتي؛ للتعارف والاستشارة، حيث كانا شريكين في مجلة جديدة، تحدثت كثيرًا مع حيدر الجنيد؛ لأنه كان المبادر دائمًا بالأسئلة والتعليقات، وقبل انتهاء الزيارة بقليل، سألني الأخ رمضان الكنعان بلطف بالغ إن كنت أعرفه أو أتذكره، فقلت شيئًا عجيبًا، وقد خفت كثيرًا من صراحتي، لكنني لم أقل غير ما جاء في ذهني على عظمة التشويش فيه، قلت: اسمح لي، سأقول شيئًا غريبًا، منذ صافحتك وليس في رأسي غير منظر لسُلَّم طويل تشخص عيوني من أعلاه إلى أسفله، ولا تطلب مني تفسيرًا لهذا الأمر!، قال ضاحكًا ومودّعًا: أنت تذكرتني وأنا أعرف التفسير؛ لأنني أنا التلميذ الذي وقع من السُّلَّم، في مدرسة المعتصم الابتدائية في الكويت، وقد كنا معًا في نفس المدرسة!.