الناثر يعرض .. الشاعر يغنّي!
في السبعين من عمره، ترك لنا بورخيس كنزاً، على هيئة محاضرات، صارت كتاباً اسمه "صنعة الشعر"، ترجمه إلى العربية صالح علماني، قدّم بورخيس هذه المحاضرات دون استعانة بملاحظات مكتوبة، قوّة البصيرة واكبها ضَعْفُ البَصَر، فلم يكن قادراً على القراءة!،.. يمكن لغير الشاعر أن يكتب عن الشعر دون ارتيابٍ، أما الشعراء فيعرفون أن محاولاتهم حلّ لغز الشعر، لن تكون غير ألغاز أيضاً!، لو علِمُوا كيف يمكن للشعر أن يأتي، وكيف يمكن له ألا يروح، لكتبوه ولم يكتبوا عنه!، الشاعر على قلقٍ، صرخة المتنبّي الخالدة: "على قلقٍ كأن الريح تحتي"، أما بورخيس فيقول: "لي من العمر حوالي سبعين سنة، كرّسْتُ حياتي للأدب، مع ذلك ليس في استطاعتي أن أقدم إليكم سوى تردّدي وحيرتي،.. لا أملك أي معتقدٍ خاص باستثناء قِلّة من الشكوك والاحتياطات"!،.. يتهكّم بورخيس على كل تعريفات المعاجم للشعر، فالشعر هو ما نعْرِفه دون أن نُعَرِّفه، مثلما نعجز عن تعريف مذاق القهوة أو الحب: "نقترف خطأً عندما نظن أننا نجهل شيئاً لأننا غير قادرين على تعريفه"!، الشعر كالزّمن، يقول أوغسطين: "ما هو الزمن؟، إذا لم تسألوني ما هو فإنني أعرفه، وإذا سألتموني ما هو فإنني لا أعرفه"!،.. بورخيس الذي تكنُّ له دنيا الأدب ما يستحق من الإجلال والمودّة، بالكاد يعرف الفرق بين الشعر والنثر: "هو الفرق بين غِنَاء الشيء وعَرْضِه"!،.. أهمية السينما كانت من الأشياء الطريفة التي نبّه لها بورخيس، يرى أن السينما درّبتنا فعلاً على متابعة مشاهد متلاحقة من الصّوَر البصريّة، بعدها صار يمكن لعدد من الأشعار أن تُقرأ بزخمٍ وجدانيٍّ، يختار مقطعاً دالّاً لروزيتي: "أيّ رجلٍ انحنى على وجه ابنه ليُفكِّر كيف سينحني هذا الوجه، هذا المُحَيَّا، عليه وهو ميِّت"؟!،.. وأخيراً يقدّم بورخيس نصيحته للشاعر الشاب، نصيحة غير متوقّعة، يدعوه فيها "قَدْر الإمكان إلى الإقلال من تنقيح عمله، لا أظن أن التنقيح والتهذيب يؤديان إلى تحسين"!، هامساً بمحبة وهدوء: " أظن أن العاطفة في الشعر كافية"، هادراً بصخب: "المعنى ليس مهماً، المهم هو بعض الموسيقى وطريقة معيّنة في قول الأشياء"!.