اللغة والكذب!
عام 1964، طرحت ألمانيا سؤالاً ثقافياً: "هل تستطيع اللغة إخفاء الأفكار"؟!، بعد سنتين من البحوث، كسب "هارالد فينريش" الجائزة الأولى، لجنة التقييم كتبت في قرارها: "دراسة خارقة للعادة"!، طُبعت الدراسة، وسُجّلت الريادة للكاتب، كأول كاتب يتناول مسألة الكذب من وجهة النظر اللسانيّة!، عرّب الكتاب الأستاذ الدكتور عبدالرزاق بنور، مع مقدّمة طويلة منه، وتعليقات مهمّة، تكاد تقرأ كتابين، لفرط الجهد والتدخلات كلما لزم الأمر!، "اللغة والكذب" كتاب ممتع، يحرث أفكاراً، ويُخَصِّب تأملّات، وتُمرجِح المفارقات الكتاب والكاتب والقارئ، وهل أكبر من مفارقة الصدق في البحث عن كذب اللغة من خلال اللغة الكاذبة في بحثها أصلاً؟!، يُنقذ "فايرنش" ما يمكن إنقاذه، شاكراً لأوغسطينوس تعريفه: "الكذب هو كل قولٍ ترافقه رغبة في التزوير"، وعليه فإن كل ما لا يتوافر فيه القصد الواعي للخداع والتضليل، لا يُعدّ كذباً، مهما أخطأ الحقيقة، وجانب الصواب، للغة في أنبل حالاتها خداعها "التّقيّ"!، الصرامة العلميّة، وحدها، شأن لا مجال للكذب فيه، ربما لذلك لا يُعتدّ علميّاً بغير المعادلات الرياضية، ما لا يُمكن تحويله لمعادلات رياضيّة، لا يمكن اعتباره علماً، إلا بتسامحات المجاز!، أمّا اللغة، فهي فيما يبدو قادرة على الكذب، ليس في العبارات والجُمَل فقط، بل حتى في الكلمات!، الكلمة دلالة أيضاً مثل أمّها، وكل دلالة هي اجتماعية وفضفاضة وغامضة ومجرّدة معاً!، وهي لذلك فقيرة وثريّة في الوقت نفسه!، آهٍ "ما أضيق حدود الكائن الفردي، وما أشد قدرة الكلمة على الإيحاء"!، لن أدخلكم في متاهات الكتاب، فقط أشهد بثرائه، وفتنته، وهو كتاب صغير لكنه عميق لا يمكن لعمود صحفي الوفاء بحقّه، مؤكداً ظني الدائم بأن أفضل الكتب، هي تلك التي تمنحنا قليلاً من الإجابات وكثيراً من الأسئلة، لكنها تجعل أسئلتنا فطنة ونابهة: "الذين يعرفون شيئاً مّا، هم وحدهم الذين يستطيعون طرح الأسئلة"!،.. معلومة طريفة، هديّة لمن صبر على المتابعة إلى هذا السطر: نقول فلان "موذِي" وخلبوص، ويستعبِط، في هذا الكتاب المشوّق ستكتشف أن المسميّات الثلاثة عربيّة أصيلة، من الواضح أن العرب كانوا "يطقطقون" على بعضهم من أيام الجاهليّة!.