شاعر تُزعجه العصافير!
لولا تشاؤميّة سيوران، لكان أعظم شعراء الدنيا، ولولا امتلاكه لموهبة لا مثيل لها زخَماً وحرْثاً، لما استأهل كتابٌ في الدنيا الحرق أكثر من كتابٍ له!.
إشراقات الخيبة الصاعقة هو، وهَدْي الضّلالات!، رهافة المطر لولا أن به حاجةٌ فيزيائيّة إلى العار:"كان بودّي أن أكون ابن جلّاد"!، سيوران هو اليائس الوحيد الذي تطيب مرافقته، قلت مرّةً إن الحزين كائن حيّ بينما اليائس "كان حيّاً" فقط، هذا لا ينطبق على شاعرٍ بهذه الموهبة غير القابلة على أخذ حذرٍ وحيطةٍ، إلا من الكلمات والمعنى، من الماهيّة والمُبرِّر!، متوحّش ليس أكثر منه رقّة، تزعجه العصافير، بوابلٍ من الحجارة يرميها، ثم يكتب عن ذلك شعراً، ينتمي لفصيلة العصافير وقد نُحِتت كلماته من الحجارة!.
لم أعجب من شاعرٍ مثلما عجبت من سيوران، مع بقاء المتنبّي استثناءً أبديّاً في كل شيء، وعلى أي حالٍ فإنني فيما قرأت من ترجمات شعر، لم يزلزلني سوى شكسبير، بترجمة جبرا إبراهيم جبرا، وهذا الذي أحدثكم عنه سيوران، هذا الذي لا يمنحهُ غير المُريع الراعب سكينةً وطمأنينةً!.
في كلّ مضطرِبٍ له طربٌ، وفي المُلتَبِسات يقظته!، كل ما يُعيبه يميّزه، ليس تشاؤميته فحسب، عجرفة تعاليه أيضاً: "سُكْنَى بالوعةٍ ولا الوقوف على مَنَصّة"!.
كل شيءٍ عنده مدعاةٌ للهُزُء من كل شيءٍ!، لكنه يعرف سر الشعر، أظنه يتشابه في هذا مع أبي نواس أكثر من أي شاعرٍ عربي آخر، أن نُغنّي دون قصدٍ محددٍ تماماً، سيوران لا يكتب، يحفر وينحت: "حين نُحجم عن الغنائيّة، يُصبح تسويد صفحةٍ محنةً: ما جدوى الكتابة إذا كانت لنقول، تحديداً، ما كُنّا نريد قوله؟"، على رؤوس الجميع يقلب سيوران الطاولة، بعِفّةٍ يمتدح الفجور، وبتهتّكٍ يحتشم، ويصون الابتذال بطهارة: "ليس من فنٍّ حقيقيٍّ دون نسبةٍ قويّةٍ من الابتذال، إن من يعتمد، باستمرارٍ، على ما هو غير عاديّ، سريعاً ما يُصبح مُمِلّاً، فلا شيء أصعب على التّحمّل من رتابة الاستثنائي"!.
حالمٌ عديم الضمير سيوران هذا، تحاكمه امرأة: "أنت ضد كل ما أُنجِز منذ الحرب الأخيرة"، يردّ: "أنا ضد كل ما أُنجز منذ آدم"!.
كيف لشعرٍ بهذه التشاؤمية، بهذا النّحْس، أن يكون قادراً على تطريز أوقات قارئه بصباحات متلاحقة؟!، عدم القدرة على تقويس إجابةٍ لمثل هذا السؤال، هو ما أبقى الشعر خالداً، وتوّجه سلطاناً أبديّاً، نقف دائماً، وفي أفضل حالاتنا، عند عتبة باب الجواب، الشعر نقيض القول المأثور!، بمعنى أو بآخر: نقيض ذاته!.
بقي من القول:
ترجمة الشاعر التونسي آدم فتحي لسيوران مُشعّة وبرّاقة، لكن لا مثيل لترجمة لقمان سليم له، أقرب الشِّعْرين إلى الشعر كان لقمان سليم.
أرمي بما أظنه دليلي:
من ترجمة لقمان سليم:
" - فيمَ تقضي سحابة نهارك؟، - أبُوءُ بِنَفْسي".
من ترجمة آدم فتحي:
" - ماذا تفعل من الصباح إلى المساء؟، - أُعَانِينِي".