كذب أبيض
لولا كذبة يوسف شاهين على جبرائيل تلحمي، ما أقدم هذا الأخير على إنتاج فيلم باب الحديد، أحد أهم أفلام السينما العربيّة على الإطلاق، سحب شاهين كل شراهة الربح، أجلسها على الطاولة، أقنع المُنتِج بأن الفيلم "شخلعة" في "شخلعة"، ويوم بدأ التصوير رمى شاهين بكل ثقله مخرجاً وممثلاً، سقط الفيلم تجارياً، لكنه عاد بعد سنوات من عرضه ليصبح جزءاً من ذاكرة جمهور السينما، لايمكن ذكر خمسة أفلام عربية في صيغة الأفضل، لايكون من بينها فيلم باب الحديد.
أطرف وأغرب كذبة بيضاء كان بطلها الشاعر الكبير فايق عبدالجليل، اتّصل بوزارة الداخليّة الكويتية معلناً رغبته في التبليغ عن محاولة انقلاب في البلد، وأصرّ على أن لا ينطق بكلمة إلا أمام وزير الداخلية، ولمّا لقي نفسه في مكتب الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وزير الداخلية وقتها، قال: أريد طباعة ديواني الشعري، وهو يا طويل العمر محاولة انقلاب أدبي كبير، كانت الأيام أرحب، ابتسم الشيخ سعد، رحمه الله، وطُبع الديوان.
تغني فيروز: " إذا كان ذنبي أن حبّكِ سيّدي.. فكلّ ليالي العاشقين ذنوبُ.. أتوبُ إلى ربّي وإني لمرّةٍ.. يُسامحني ربّي: إليكِ أتوبُ" يظن كثير من الناس أن الأبيات من التراث، ليس ذلك فقط، عاصي الرحباني نفسه ظن أنهما من التراث، وفي كتاب قصائد مغناة الصادر سنة 2007، يحكي منصور رحباني الحكاية: "طلب مني عاصي بيتين من الشعر القديم تُنشدهما فيروز ضمن فاصل موشّحات من الشعر التراثي القديم، لجأتُ إلى الكذب، اقتطفت آخر بيتين من قصيدة كتبتُها، وحين سأل عاصي عن صاحبهما قلتُ إنه الرّاعي النُّميري، شاعر قديم، ولم يكتشف عاصي تلك الكذبة إلا ليلة الافتتاح في بعلبك، حين قرأ في البرنامج أن البيتين للأخوين رحباني.
في كتابه صنعة الشعر، يحكي بورخيس حكاية مماثلة: "جربتُ في إحدى المرّات استعارة أقرب لأن تكون جريئة، أدركت أنها ستكون غير مقبولة لأنها صادرة عني، فأنا مجرد مُعاصِر فقط، وهكذا نسبتها إلى فارسيّ أو اسكندنافي قديم،عندئذٍ قال أصدقائي إنها مُدهِشة".
وحين سألت طفلة صغيرة، فولتير، عن حكاية الجاذبيّة الأرضيّة، اخترع لها من عنده حكاية التفّاحة التي سقطت على رأس رجل اسمه نيوتن، ولأنها كذبة تختصر الحقيقة، كذبة لها جاذبيّتها الخاصة أيضاً، آمن الناس بالحكاية وجعلوا منها حقيقة أمر اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة.
مات رفعت علي سليمان الجمّال، دون نعي من المخابرات المصريّة، بعد سنوات قام محمود عبدالعزيز ببطولة مسلسل رأفت الهجّان، الذي يحكي حكاية الجمّال، وفي وفاة محمود عبدالعزيز نشرت المخابرات المصرية نعياً لبطلها، الذي أبهر العرب بأدائه في المسلسل.