العقل الناطق
لا شيء أقسى على من ينشر الوعي سوى تهميشه وتخوينه وملاحقته وإسكاته. وليس أصعب على الأًمم من أن يموت ضميرها الشجاع. حينما توفّي لي وين ليانغ طبيب العيون بمستشفى مدينة ووهان الصينية متأثراً بمرض “ كورونا” ولدت معه عقول الإدراك المتأخر وصحت بعده ضمائر كانت تلتحف النوم سنوات طوالا. لكن لا أحد يعوّض العقل الناطق بالوعي حينما يغيب.
حذّر الطبيب الشاب من فيروس خطير قادم من سوق لحوم شعبي في المدينة المكتظّة بالناس فوشى به زملاء المهنة وحققت معه المستشفى العامل بها بتهمة “ نشر معلومات طبية خاطئة”، وأخذت عليه الشرطة تعّهداً بعدم “ تخويف المجتمع”. كان الجميع يريد من لي وين ليانغ أن يصمت وألاّ يوقظ الشعور الإنساني بالحياة. كانت الصين تُفكر بطريقة الدولة التي تمتلك ثلث اقتصاد العالم ولم تتوقع أن تبور البضائع بفعل فيروس ذي رؤوس بكتيرية شرس يلتصق بالأسطح ويهاجم الرئتين ومناعة الفرد ويعطّل الحركة. لقد كانت المسألة في غاية الدقّة لا يكتشفها سوى المدرك المضيء.
اختار العالم – وبكل أسف – وهم سطوة النفوذ واللذّة الكاذبة على الاستماع لصوت الحقيقة والآن تحاول البشرية أن تنظّف ما كان من أوساخ بالاتكاء على الوعي لا على القوّة. وهذا أمر مثير حقاً سقط معه مفهوم الامتلاك المادّي لدى الدول وراحت بقواها الهائلة تنكفئ على ذاتها وتنادي شعوبها بضرورة إظهار المكنون الحسّي.
وبانتشار مرض “covid- 19” ظهرت حاجة الأمم إلى من يُحادثها ببصيرة ويأخذها إلى طريق الخلاص من أوهامها وجهلها ويدلّها على سبل النجاة من كل شر. كما أنه أعطى دلالة على أن الإنسانية تشترك ببعضها أكثر وتتفوّق على كل شيء للوصول إلى أرض العيش الخالي من منغصّات بعضهم كما أنها ومع كل مهُدد تتحدث بلغة واحدة ودوافع متحدة مُلغية كل الاختلافات.
لقد اكتشف الإنسان الأول فائدة الحجر للبقاء وهو انطلق نحو التقريب في هذا الزمان بضغطة زر وبات المحتوى الإنساني هو الطاغي على كل الوجود. إن الكُرة الأرضية بأكملها تتابع الآن حالة الإسباني في مدريد والإيطالي في روما وتؤازر أولئك الباقين في منازلهم العازفين من على آلاتهم أغنية المواجهة عبر الشرفات. لم يعد أحد يلتفت الآن للبندقية ولا إلى جنرالات الجيش ولا إلى الوعّاظ ولا إلى الفوضويين. كًل ما يريده الإنسان في هذا الوقت أيد نظيفة وأدوات تعقيم وأسطح آمنة ورسائل مُتبادلة لا يغيب عنها العقل الناطق.