حديث
المقهى
في المقهى الصغير الدافئ يجلس طفلان عربيان، ينتظران والدهما الذي ينتظر بدوره تجهيز قهوته وما طلبه ابناه من عصائر.
الطفلان يتحدثان بلغة إنجليزية خالصة، غافلين عن الإثباتات الدامغة والدالة على عروبتهما، لون بشرتهما وملامحهما وشعرهما الأسود، يَجهز الطلب فيناديهما والدهما بابتسامة: let’s go. تمنيت لو أن فرصة سنحت للتحدث معه، كأن يسقط منه شيئًا فالتقطه وأعيده إليه، ربما لغته ولغة أبنائه. في المقهى نفسه يعيد ذاك الشخص تكرار المشهد كل يوم، يضع سماعاته لكيلا يزعج الجالسين بصوت ما يشاهده، يتأثر مع المَشاهد، يتأوه، يضحك، يضرب كفيه ببعضهما. ماذا لو أن المخرج أو صانع المحتوى شاهد تأثيره عليه، كان سيفرح فرحًا عظيمًا، وقد يصاب بالغرور، سيعود إلى بيته ليحكي لزوجته عن التأثير الذي أحدثه بأحد المشاهدين، ستجامله زوجته، ربما تكون صادقة، ستقول له: هذا مُشاهد واحد سمحت ظروفك أن تعرفه وتتعرف على تأثيرك عليه، فما بالك لو تعرفت على كل الذين يشاهدون أعمالك وعرفت تأثيرك عليهم! سيزداد غروره، سيتحسر على نفسه، وعلى ظلم الظروف التي لم تنصفه لغاية الآن، ربما ينسى أساه بعد أن تضع زوجته الطعام أمامه، سيشعر بثقل ما أكله على معدته، سيشعر بالناس، وقد ينام على الكنبة التي تمدد عليها حتى الصباح. في الزاوية تجلس عجوز أنيقة، تضع قبعة مخملية تسربت منها خصلات ذهبية، ملابسها تدل على تاريخ عريق من الأناقة، وجهها مازال يحقق بعض الانتصارات على الزمن، جمالها ممتد من امرأة كانت فاتنة، لا شك أنها كانت أجمل امرأة في المدينة، ولكيلا أبالغ.. ضمن أجمل ثلاثة نساء في المدينة، ترى هل تشعر بحسرة على رحيل المجد؟ على فقدانها زمن إطراءات وتودد الرجال لها؟ أم أنها متصالحة مع الزمن، ولا تشعر بأي حنين للماضي، ذلك أن العمر عندما يمضي يغير معه الاهتمامات. من الواضح أني مللت الجلوس في المقهى.. اعتدت أن أقرأ أو أكتب.. وانتباهي لمن في المقهى دليل على إصابتي بالملل. ترى هل يجلس في المقهى الآن من يكتب عني شيئًا مثلما أكتب عنهم؟ عليه أن يصفني وصفًا رائعًا، أن يقول على أقل تقدير: في المقهى يجلس فارس عربي.. لكنه دون حصانه وسيفه، وحيدًا إلا من ذكرياته!
ـ مثل إنجليزي: كل الأمور على ما يرام في النهاية، فإن لم تكن كذلك فهي ليست النهاية.