الأرسنالي
المنسي!
عاش سالم سنوات طويلة في بريطانيا، ولو كان ملتزمًا بمتطلبات مرض السكري مثل التزامه بمحبة فريقه أرسنال لما آلت أموره إلى ما آلت إليه.
يحفظ جدول المباريات، يراجع ما يحفظه ليتأكد، يناقش طويلًا للدفاع عن “المدفعجية”، لكنه في الوقت نفسه لا يولي مرضه، الذي بدا مهادنًا، أي اهتمام! يتجاهل خلال اليوم أن يحقن نفسه بالأنسولين قبل وبعد كل وجبة، وإن فعل، فإنه لا يحسب حسابًا للكمية التي يحقن نفسه بها! يتغاضى إذا ما شعر بالنعاس عن أنسولين المساء طويل المفعول، أما المواعيد، فلم تكن باتجاه الأطباء، بل باتجاه الملعب الذي تقام عليه مباراة أرسنال! يحضر كل المباريات التي تقام في لندن، ولا يتغيَّب إلا عن حضور المباريات التي تقام في الشمال البعيد، لكنه لا يتردَّد في السفر إذا ما كانت المباراة مصيرية. كل ما تحتاج إليه لكسب محبة سالم هو أن تقول له: “أرسنال فريق عظيم”. فيجيبك بابتسامة: “حبيبي”. مصحوبة بقبلة هوائية.
عندما بدأ السكري يكشف عن خباياه اللئيمة، انتبه سالم، لكنه أدرك سريعًا أنه لن يستطع إعادة الزمن للوراء! واصل حضور المباريات بنظر ضعيف، وتعلَّم بعد جهد وصبر كيف يحضر المباريات وهو أعمى! يهتف مع الجماهير بحماس الأناشيد، ويعود متلمِّسًا الطرقات بعصاه البيضاء دون تذمُّر، أو شكوى من تعب الطريق. عندما زرته في شقته، كان وجهه غامقًا منتفخًا، وكان اللؤم قد تعدَّى النظر مواصلًا مكره على بقية أعضاء الجسد، أما سالم، فتعايش مع ذلك بشجاعة عجيبة، وحافظ على حيويته وضحكاته وحبه لأرسنال. حينما اتصلت به وهو في المستشفى، طلب تأجيل زيارتي حتى يعود إلى شقته، وعندما وصل إليها، طلب من الجميع أن يكون التواصل معه عبر الهاتف فقط، لأنه لم يرد أن يراه أحدٌ وهو في حالته التي وصل إليها. بكيت ونحن نواريه الثرى غريبًا، وعندما كنت أخطو نحو مخرج المقبرة، كانت صوره وكلماته تزدحم في عقلي، أيعقل أن سالم لم يعد بيننا؟ لكن عدم التصديق يتلاشى مع الزمن عندما يفرض الغياب واقعه المؤلم. اليوم كلما شاهدت جماهير أرسنال تهتف، أشاهد سالم بينهم، وأشعر بالأسف، إذ كيف لهذه الجماهير أن تغني وترقص دون أن تنتبه لغيابه المتكرر عن المباريات، كيف لها أن تنساه بهذه السرعة؟! لم أتوقف عن زيارة سالم كلما شعرت بالشوق للحديث معه. أتخيَّله جالسًا في مكانه المعتاد بالقرب من باب الصالة. أقول له: “أرسنال فريق عظيم”. فأحصل منه على ابتسامة تصاحبها: “حبيبي”. مع قبلة هوائية.