وهذا دليل يتجدد..
يصطدم الإنجليز بالهولنديين.. يلتقي الإسبان بالفرنسيين.. هذا دور الأربعة الأوربي.. أيضًا يمكنه أن يكون دور الأربعة في كأس العالم.. الإسبان والإنجليز والفرنسيون سبق لهم تسيّد العالم، والوقوف على المونديالي، ورابعهم المنتخب الهولندي لعب ثلاثة نهائيات في المونديال، وجميعها كان أقرب وأحق لانتزاع الذهب لولا أن أسبابًا عدة وقفت في وجه أصحاب القمصان البرتقالية، وحطمت فكرة الكرة الشاملة، وسقط المشروع الهولندي، وضاع حلمٌ كان في متناول اليد.. هذا الدور يثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، ماذا تعني البطولة الأوروبية لهوية كرة القدم بأوجهها المتعددة والمتغيرة.. هي أوروبا سيدة اللعبة، وأستاذة اللعبة، وصاحبة القرار الفني والتكتيكي والمنهجي في عوالم كرة القدم منذ ما يزيد على المئة عام.. في دور الثمانية حسمت مباراتين بالترجيح، وحسمت مباراتين بفارق هدف وبصعوبة.. من هنا يتجدد الحديث ذاته بأفضلية مطلقة لمنافسات القارة العجوز حين تبدو أي مقارنة معها خجولة، حتى وإن كانت بطولة كأس العالم ذاتها.. المنتخبات المتقاربة المستوى، والشخصية، والرغبة، والحضور، حينما تتلاقى، فإن التوقعات والترشيحات تتحول إلى مجرد لعبة تنجيم، لا تميل للواقعية كلّ الميل.. الفرق التي تملك القوة، والخبرة، والقدر على التعاطي مع مواجهات الخروج المميتة، يتقلص فيها منظر المفاجأة إلى حدود بعيدة.. حدث هذا عندما وجد المنتخب الإنجليزي نفسه متأخرًا في الاختبار السويسري.. تبقى دقيقة واحدة فقط وتذهب آمال هاري كين ورفاقه أدراج الريح.. تعادل بيلنجهام بهدف أسطوري، والمواجهة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. امتدت المباراة للأشواط الإضافية، وأضاف كين في بدايتها هدف التفوق.. لم يحتاج الإنجليز أكثر من ثلاث دقائق ليرتبوا قطع البازل، ويقطعوا طريق الأحداث الغرائبية.. الأتراك تقدموا أمام هولندا.. ذاك التقدم وذاك الحماس قد تكون عملية نافعة ومفيدة في بطولة ليست أمم أوروبا.. تعادل الهولنديون وتقدموا، وأثبتوا مجددًا أن ما تصنعه الأرواح المندفعة هو مجرد اجتهاد لا قيمة له عندما تكون الحسبة أمام الفكر الكروي المبني على الواقعية المصحوبة برؤية فنية جادة وملتزمة، وتعرف من يكون خصومها.. وهذا بالضبط ما حدث للأتراك في المحطة الهولندية العاصفة..
إنني أحشد أدلتي الواضحة وضوح الشمس على متانة وقوة البطولة الأوروبية، وتفوقها المطلق والدائم على أي منافسة كروية يشاهدها ويتابعها أهل الأرض، بما فيها كأس العالم نفسه.. إنها براهين كثيرة، يراها الأعمى، ويسمعها الأصم، وما دور الثمانية، وأحداثه ونتائجه، إلا ورقة هامشية مركونة في زاوية مهملة قد نحتاجها في وقت تتعالى فيه أصوات لتهميش القوة العربية من أجل تسجيل مواقف غاياتها لا تتجاوز تلك المناكفات الفارغة، التي يتركها الزمن في غياهب الجب.. يتركها في ظلمات بعضها فوق بعض.. ثم يحييها من يعتاش فقط على مساعي رخيصة في مزاد مفتوح لا يباع في ردهاته سوى بضائع مزجاة.. لكنها باهظة الثمن..!!