فرحة تصفي حسابا بعيدا
كسلسلة مترابطة تأتي بطولة أوروبا في تشابهات متتابعة ليستعيد التاريخ أوراقه البالية، أو تستنسخ المشاهد ذات السيناريوهات المتكررة، وبطريقة دراماتيكية يغلفها التوافق التام كما يحدث في معارك المصارعة الحرة.. إسبانيا وإنجلترا تهزمان الفرنسيين والهولنديين بالطريقة إياها، والأحداث إياها، والنتيجة إياها، مع اختلافات شاردة في بعض التفاصيل الصغيرة.. يتقدم الخاسر المغادر بهدف مبكر، ثم يرتب الفائز العابر صفوفه المشتتة ويستجمع قواه وينتصر بهدفين.. أشياء أكثر يمكن تناولها تثبت أن المواجهتين يمكن اقتناص تطابقات فنية وتكتيكية فيهما جعلت من الحفلتين العامرتين بالحذر والترقب واللعب البطيء في منتصف الملعب وإغلاق الدفاع بإحكام وسد الفراغات داخل منطقة الجزاء ونقل الكرات الطويلة رهانًا على الارتداد السريع دون إغراق خط المنتصف باللعبة الخاطفة التي ربما تربك الخصوم وتحسم الأمور من ضربة مفاجئة.. هذه وغيرها تركت الكلام عن تلك الزوايا المتلامسة في المباراتين يستحق الكثير من الضوء المتسرب داخل الثقوب المكشوفة.. مباراتان مفعمتان بالحيوية وحياة كرة القدم النابضة بترقب المفاجأة القاتلة في كل لحظة.. كرة القدم التي تعطي الرهانات المستحيلة مكانًا قصيًا يمكنها فيه التنفس والبقاء على وجه الأرض..
مرة أخرى تنبض تصفية الحسابات من وراء السنين الغابرة.. هناك في أيام الانطلاقة المستوعبة لأهمية تحويل اللعبة إلى شيء يشبه المخططات العسكرية في حروب الاستنزاف.. هناك قبيل الستة والثلاثين عامًا تجرعت إنجلترا مرارة الخسارة الأقسى في تاريخها الأوروبي الطويل عام 1988 على يد فتى هولندا الطائر ماركو فان باستن، الذي مزق الشباك الإنجليزية بهاتريك أزاح منتخب الأسود الثلاثة من بطولة استضافتها ألمانيا أيضًا وكان واحدًا من أقوى المرشحين قبل بداية المنافسة.. وقعت هولندا والإنجليز في مجموعة واحدة ذلك العام.. خسرت إنجلترا أمام إيرلندا في مباراة الافتتاح، وحدث الشيء نفسه للهولنديين أمام السوفييت.. كلاهما خسرا بهدف يتيم.. في المباراة الثانية يمكن للتعادل أن يبقي آمالهما قائمة بانتظار لعبة الكراسي الموسيقية.. لكن باستن كان له رأي آخر وأعاد الإنجليز مبكرًا إلى لندن قبل أن يخسروا مباراتهم الأخيرة في دور المجموعات ضد السوفييت بثلاثية جديدة ويغادرون البطولة في أسوأ مشاركة إنجليزية عبر تاريخ البطولة الأوروبية.. الهولنديون على الضفة المقابلة واصلوا طريق العرش، وراحوا بعيدًا وانتزعوا أول وآخر مباراة عانقتها بلادهم.. يغيبان عن اللقاء وجهًا لوجه كالغرباء القاطنين في بلدين متباعدين لا يجمعها حلم التلاقي ولو بعد حين.. مرة واحدة فقط تصادما في يورو 1996 وحينها فاز الإنجليز برباعية، لكن هولندا رافقتهم للدور الثاني، ولا يمكن لهذه المباراة أن تخضع لأي تصنيف من أي نوع سوى أنها شيء من أداء الواجبات التنافسية والنظامية.. جاء وقت تصفية الديون.. كما فعل الإسبان بدين قديم مع الفرنسيين، يكرر الإنجليز الحادثة ويردون على ثلاثية باستن بسيناريو مكتظ بالتشفي والقهر والأوجاع.. تقدم المنتخب البرتقالي مبكرًا.. كان الانطباع السريع أن النحس والحظ المشؤوم الذي يرافق الإنجليز كظلالهم جاء في ليلة ألمانية بغيضة على قلوبهم.. يأتي التعادل بواسطة جزائية هاري كين.. يبدأ الشوط الثاني، وكان واضحًا من تقاذف الكرة على عرض الملعب أن الإنجليز الأكثر قدرة على كتابة الفوز.. حالة من التردد والمخاوف الهولندية والهجمات الطائشة تركت الريح تتجه مع السفن البريطانية القادمة بفرقة كوماندوزية جاءت من وراء البحر لاختطاف جزيرة الكنز.. النوايا الإنجليزية معلنة وبصوت متعالٍ بحثًا عن هدف يلغي الانتقال إلى المرحلة الحرجة والعصيبة المتمثلة بالأوقات الإضافية ومن ثم فتح ستائر المسرح على ضربات الحظ المميتة.. بث المدرب روحًا هجومية مندفعة ومتجددة بتغييرين.. أخرج لاعبي الرهانات الكبيرة.. واستعان بوجوه صاعدة.. كان يأمل ألا تذهب المواجهة إلى مواجهة أخرى.. يأمل أن يرد لهولندا نار باستن المتقدة في قلوب الإنجليز من سنوات طويلة.. يأمل القضاء على كل الليالي السوداء.. لا يريد أن يلدغهم الهولنديون مرتين في زمنين مختلفين.. يريد الفوز والتأهل لأنه من بداية المنافسة كل شيء يقول إن الإنجليز يستحقون الوصول إلى الخطوات الأخيرة.. سجلوا هدف البطولة كما فعل بلينجهام أمام سويسرا.. عودة لفرحة تتجدد.. هي أوروبا المتجددة..!!