لا وقت للملل
يتقدم الفكر الكروي الأوروبي بمراحل على بقية القارات المتناثرة حول العالم المولعة باللعبة الحيوية الصاخبة.. ما فعله الأوروبيون قبل أربعين عامًا يكتشف العالم كله جدواه ومعناه وقيمته الآن.. في عام 1984 ألغى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع.. واحدة من الأفكار العبقرية في الطريق للمحافظة على استمرارية الصخب والرغبة والتحدي خلال خوض المباريات الرسمية والمنتظمة.. مباراة مثل هذه ما هي إلا حفلة موتى أو خارجين من الموت، ويطلب منهم الغناء والرقص وعزف ألحان الفرح في حفلة مكتظة بذاكرة حزينة وجسد منهك بالجراح، وروح مثخنة بالطعنات.. قبل أيام قلائل خرج اللاعبون بخيبة كبيرة وحسرة واسعة وضربة موجعة عقب فقدانهم فرصة الوصول للنهائي، ثم يطلب منهم اللعب ومضاعفة الجهود لهزيمة خاسر يشبههم في مباراة لا يتابعها أحد، ولا يهتم لنتيجتها أحد، ولا يفتح لها التاريخ هوامشه فضلًا عن صفحاته.. إنها مبارة متثاقلة بلا أهمية ولا مهتمين.. مباراة لا تختزنها الذاكرة الحية، ولا تحفظها الأزمنة المنسية، ولا تترك لها الحسبة الناقصة أي آثار بين فواصلها.. مباراة يلاحقها الإعلام بخجل وهدوء وأجواء صامته.. لا تراهن الجماهير على أهدافها ورجالها ونجومها.. لا يسهر المدربون الليالي الطوال وراء صداعها بحثًا عن تكتيك يناسبها ومدرسة تتوافق مع الأسلوب الأفضل لخوض غمارها المغمورة بالتجاهل والغياب عن أي شيء يعطى لمباراة كرة قدم بين كبيرين.. في هذه البطولة الخاسران فرنسا وهولندا اللذين تلقيا الهزيمة الموجعة من الإسبان والإنجليز وبنفس النتيجة، ولو فرض اتحاد الكرة في القارة العجوز مباراة طارئة بينهما تحدد الثالث والرابع، لكانت عنوانًا مزدحمًا بالملل والكآبة والوجوه الكسيفة، لكنه لم يفعل لأنه وباختصار اتحاد كروي يسبق الزمن بعشرات الخطوات.. لو لعبت فرنسا وهولندا مباراة ودية إعدادية عادية، لازدحمت المدرجات وتناقلتها القنوات وفتحت لها مسارح التحليلات، فالمباراة الودية التي تجمع عملاقين ربما يكون هناك جدوى وألف سبب لمطاردتها إما لمعرفة فلسفة المدرب أو مراقبة أداء اللاعبين مع بعضهم أو قراءة الطريقة الفنية للمنتخبين.. مباراة المركز الثالث تفتقد لكل هذا.. تغلفها انطباعات مهمومة على ضياع الحلم الكبير بالوصول إلى النهائي ومتابعة المشوار نحو أسوار الذهب..
حتى مباريات تحديد المركز الثالث في كأس العالم الذي يعده الاتحاد الدولي لكرة القدم أهم منافساته على الإطلاق لا تزال قائمة، لكنها بلا قيمة وبلا معنى وبلا صخب يتوازى مع كونك أصبحت ثالث منتخبات العالم.. ويبدو أن «فيفا» سيعيد النظر مليًا وطويلًا بهذه الخطوة، وسيتبع دروب الأوروبيين ويلغي في قادم السنوات هذه الحفلة الحزينة إلى الأبد.. ربما الممسكين بقرار أكبر منظومة كروية دولية يعون تمامًا أفضلية إزاحة منافسة المركز الثالث من المشهد.. ربما المسألة بالنسبة لهم قائمة على التسويق والعوائد المالية من النقل والإعلان.. ربما يتمسكون بها حتى لا تصبح أوروبا مصدرًا للأفكار الأخاذة النابضة بالحياة في كل ما يخص اللعبة الساحرة.. ربما هناك أسباب أخرى لا أعرفها ولا أستوعبها..
مباريات المركز الثالث هي واحدة من أوجه كرة القدم المشوهة، وحتى تعرف وتتيقن أن أوروبا هي قارة كرة القدم.. هي الأساس.. هي البوصلة الأولى والأخيرة، فلا بد أن تتذكر أنها ألغت هذه المباراة من حساباتها وأجندتها وروزنامتها.. متى فعلت هذا ؟ .. فعلتها قبل أربعين عامًا، ما يعني أن بطولة الأمم الأوروبية وفي كل هذه السنوات لا مكان فيها لمباراة كعازف ليل، وكتائه وسط صحراء موحشة، وكعصفور يواجه ليلة عاصفة وممطرة في غابة مظلمة.. أوروبا وكرة القدم.. القصة التي امتلأت بالعقل والتعقل والعقلاء والمبدعين.. في الملعب وبين المدربين وخلف مكاتب الإداريين.