النهاية.. التوقعات لا تكفي
لا أحب التوقعات ولا أحب الترشيحات ولا أحب التكهنات والتنبؤات.. وأظنها أسهل وأكثر ما يمكن تقاذفها قبل أي مباراة هامة وكبيرة ومصيرية.. يواجه الإسبان واحدًا من أقسى الاختبارات الكروية حينما يصطدمون بالإنجليز في نهائي يورو 24، وإذا كانت الأمور ستقرأ بصورة فنية وحسابية وتكتيكية طبيعية وسطحية فإن إسبانيا تبدو أقرب كثيرًا لانتزاع اللقب الأصعب في تاريخها بعد مشوار محفوف بكل المخاطر تعامل معه القادمون من مدريد بكثير من الانضباطية الأدائية المتوازنة بين الدفاع والهجوم في كافة مبارياتهم، إضافة إلى السيطرة الميدانية التي لا تعتمد على الاستحواذ السلبي الممل وإنما كان التنوع في الغزو من العمق والأطراف سلاحًا إسبانيًّا ضرب به دفاعات كل الخصوم وتجاوز تحصيناتها.. إسبانيا أقرب للفوز لأنها تملك الحلول الهجومية الجادة المقترنة بالقدرات الفردية الموثقة بالموهبة والحيوية.. إسبانيا أقرب لأنها حين تهاجم لا تفقد الكرة دون تشكيل خطورة حقيقية، وكأن الإدارة الفنية المتسمرة وراء الخطوط قد فرضت تعليمات صارمة في هذا الإطار فلا تنتهي الهجمة المبنية من الخلف إلا بلعبة تهدد حراس الخصوم، أو تبقى رهينة الأقدام الإسبانية حتى تأتي اللحظة المناسبة للضربة القاتلة.. كشف الإسبان مرمى أضدادهم خلال البطولة عشرات المرات، وهذا كان الدليل الأوضح على القدرة المتماسكة في الوصول إلى الشباك حتى لو كان الحظ وأحيانًا الاستعجال والارتباك لها أيادٍ طويلة ولها رأي آخر.. إسبانيا وحدها التي كانت تقدم الكرة الهجومية المتعقلة التي لا تهمل الدفاع في وقت البحث عن هدف يهز المنافسين، فيما كانت الخشية من أي ارتداد مفاجئ يثير مخاوفهم، واشترك معهم في هذه الميزة طوال البطولة الفرنسيون فقط الذين كانوا يؤمنون خطوطهم الخلفية بطريقة إغلاق الوسط المتأخر حتى والكرة بحوزتهم في وقت الهجوم، وحينما التقى الإسبان بالفرنسيين في دور الأربعة ذهبت المباراة والنتيجة للفرقة الأكثر ثباتًا في الهجوم والدفاع في حالة متوازنة ففاز الإسبان.. في الضفة الأخرى هناك الإنجليز.. هنا تأتي الصورة مرتبكة تمامًا.. الإنجليز استحقوا الوصول للنهائي.. من اللقاء الأول اتضحت الدوافع والرغبات على أداء اللاعبين بتجاوز أي إخفاق فني أو تكتيكي.. إنجلترا تملك خليطًا من الوجوه الصاعدة والخبيرة.. يدعمها في المقام الأول بلوغ بيلينجهام قمة حضوره الفني الواثق.. حينما احتاج الإنجليز للموهبة الشابة وقدراتها، وجدوه ينتظرهم في وقت كانت الأصوات تستعد لمهاجمة المدرب جاريث وتوجيه رماح الانتقادات الحادة إلى صورته المهتزة.. كان الإنجليز على وشك المغادرة المبكرة أمام سلوفاكيا في دور الستة عشر، لكن بيلينجهام ظهر في الرمق الأخير وتكفل بتسجيل أروع أهداف المنافسة.. وإذا فاز الإنجليز باللقب فإن هدف بيلينجهام هذا هو هدف البطولة وهو مهرها الغالي، حتى لو حسم النهائي بسيناريو أسطوري.. يسيطر الإنجليز بثبات، يصحبه البناء البطيء الذي قد لا يكون مجديًا أمام الحيوية الإسبانية.. سيواجهون صعوبة بالغة في انتهاج ذات الأسلوب الذي سلكوه طوال البطولة.. الإنجليز يمكن بسهولة ضربهم باللعب السريع، فخط المنتصف يبدو نظريًّا مساندًا للهجوم مع الاعتماد التام على الدفاع المتقدم، وهذا ينهك لاعبي الظهر فيما يجعل متوسطي الدفاع تحت ضغط مستمر طوال المباراة.. يمتاز الإنجليز بالحذر المبالغ فيه، وهذا وإن كان له سلبياته الكثيرة، إلا أنه وسيلة حيوية قد تضمن إلى حد كبير عدم التورط بمجازفات يكون ثمنها باهظ الثمن.. الإنجليز لا يعرفون المغامرات الطائشة سواء في كرة القدم أو الاقتصاد أو حتى السياسة.. الإنجليز يفكرون طويلًا قبل اتخاذ قرار ينفعهم ولا يضرهم.. تلك الحالة البراغماتية في كافة تعاملات حياتهم انعكست حتى على فلسفتهم في كرة القدم.. ربما تفوز إسبانيا.. هي الأقرب.. هذه مجرد حسابات نظرية وفنية واستقرائية، وكرة القدم لا يمكنها يومًا أن تكون عملية كيميائية دقيقة.. هي خليط متشابك ترسم ملامحه أحيانًا صافرة ظالمة مثلًا، أو غلطة حارس بلا تركيز، أو هفوة مدافع فقد التركيز لحظة واحدة.. براعة مهاجم فعل شيئًا ما خطر على بال أحد.. شيء من هذا وذاك.. شيء من التجليات والتحديات.. شيء من نتاج فوز يأتي بلا مخططات.. وخسارة تنهمر على رؤوس أصحابها بلا تحذيرات.. وإذا كانت الأماني لها كلمة.. أقول ليتها إنجليزية.. إنني أتمنى أن يفرح أحفاد الذين جاؤوا لهذه الدنيا بكرة القدم.. الجامعة الإنجليزية التي رسمت خارطة طريق كرة القدم للعالم وغيّرت وجه التاريخ تستحق أن يعاد ذكرها وتستعاد سيرتها الأولى.. ليت بعض الأماني تتحقق.. لا توقعات ولا ترشيحات..!!