أصوات مزعجة في المدرجات
لو صحا مشجع من إغماءة أجبرته على ملازمة سرير المرض خمسة وأربعين عامًا، وأخذته إلى ملعب الجوهرة المشعة في جدة؛ فسيبهته التغير الكبير والواسع الشاسع بين ملاعب اليوم والأمس..
أشكال اللاعبين تغيرت فراحوا يعتنون بقصات شعورهم على حسب الموضة، والشورتات لم تعد بتلك المقاسات القصيرة والضيقة، والفنايل فضفاضة وأرقامها مريحة للعين، وملابس الحكام ما ظل يكسوها السواد وكأنهم في جلسة عزاء داخل منزل في الجهه الغربية من الكرة الأرضية؛ فغزتها الألوان العصرية الزاهية، والمدرجات اكتظت بالكراسي المريحة، ويمكن متابعة الأهداف عبر شاشات عملاقة متوزعة في أطراف الاستاد الذي أضحى أحد معالم عروس البحر.. كل شيء تغير وتبدل وتطور إلا أصواتًا مزعجة تحتل مساحة من مقاعد الملعب وتردد كلمات ضائعة بين أغاني الأعراس وأناشيد المدارس، وتسمى هذه المجموعة المسببة للصداع والامتعاض رابطة المشجعين..
سمحت لي الظروف والأيام بدخول ملاعب مانشستر وريال مدريد وباريس سان جيرمان، وجلت بأنظاري أرجاء هذه الملاعب الأوروبية؛ فما طاحت على روابط أو ما يشبهها، وهذا فضل من الله على سمعي وبصري وعلى الناس هناك، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. ما كانت روابط التشجيع وإنشاؤها والاهتمام بها خطوة رياضية مهمة للمشجعين واللاعبين، وإلا لما فاتت تلك الأندية الرائدة والعملاقة التي يتجاوز عمرها المئة عام تزيد أو تنقص قليلاً.. لا يهم تاريخ ميلادها.. الأهم أنها تعرف أن رابطة المشجعين إنما هي زوائد يفترض ألا تتواجد، وإن تواجدت فيجب التخلص منها.. ليس كل ما يفعله الغربيون هو الصح ولا يصح أن نقتفي آثارهم كرويًّا بكل شيء، لكن هذه بالذات أرى ـ والعلم عند الله ـ أنهم على حق وعلى صواب وعلى بصيرة. كما أن الشمس تشرق من الشرق..
ما الفائدة من استمرار روابط يسيطر عليها ثلة من الغوغائيين الذين يستغلون مكانتهم أحيانًا ويتدخلون في أمور الأندية صغائرها وكبائرها، ويتوهمون أحيانًا أخرى ويظنون أنهم أهم من اللاعبين والإداريين والمدربين.. في الثقافة الكروية يقولون إن الجمهور هو اللاعب رقم 12 وبالطبع لا يقصدون أولئك المزعجين، وإنما يعنون المدرج إذا امتلأ عن بكرة أبيه.. اللاعب والمسؤول والمدرب يتمنون دائمًا المساندة الجماهيرية وينشدون ذلك بحضور أكبر قدر من المتابعين في المدرج..
لا يهمهم أبدًا تلك الروابط التي تسبح في فضاء محاصر بالفراغ.. جماهير ليفربول أطلقت عبارة "لن تسير وحيدًا بعد اليوم"، ودار هذا الشعار الرومانسي العالم كله دون الحاجة إلى رابطة وروابط.. جماهير النصر حفزت لاعبيها وساهمت في تحقيق دوري 2014 بواسطة "متصدر لا تكلمني"، بعيدًا عن ضوضاء الروابط.. هذا يعني باختصار أنه ما عاد هناك أي داعٍ لعشرات يحملون مكبرات صوت مكانها الطبيعي في حراجات الخردة والأثاث المستعمل وليس ملاعب كروية عصرية حديثة، تنشد كل وسيلة تجعل منها بيئة حيوية جاذبة للناس أيًّا كانت توجهاتهم..
أعرف تمامًا أن ثقافات العالم تختلف وتتباين، لكن الغناء بتلك الطرق البالية ما عادت تتناسب مع ستايل العصر وحراكه المتسارع.. أما قادة هذه الروابط.. إذا كانت أصواتهم عذبة وجميلة وجبلية فيمكنهم أن يتجهوا إلى ساحات الفن بجانب نجوى وأحلام وعبد الله بالخير؛ فهذه لا جدال أنها أكثر شعبوية ومتابعين ومريدين ومحبين ومعجبين.. وأما إن كانت عكس ذلك ـ وهذا ما أعتقده ـ فيا ليت أنهم يتركون مشجعًا صحا من إغماءته يتابع المباراة براحة واستمتاع وهدوء، وأما إذا أصروا وكابروا وعاندوا، فليس أمامي سوى أن أقول لهم تلك العبارة النجدية الموغلة بالشعبية: "يا حظ الصقهان".. والصقهان لمن لا يعرفهم هم الصمان والطرشان وفاقدو السمع..!!