المحتوى.. أين المشكلة؟!
جون مونتاغو سندويتش.. هذا ضابط بحرية بريطاني أدمن الخمر والقمار، وكان يمضي طوال يومه منهمكًا ومشغولًا يمارس أهم طقوس أيامه وحياته، لدرجة أنه لم يكن يقوى على مغادرة الطاولة فيشرب ويتسلى ويأكل على ذات الكرسي..
وصل به الحال حتى لا يعطله الأكل طويلًا، أن طلب من جنوده تحضير وجبة سريعة عبارة عن قطعة خبز داخلها قطعة لحم.. لا يريد هذا السكير القمرجي أن يقطع وقته إلا بمزاجه.. أعجبت الفكرة رفاقه وشلته، وصاروا يطلبون نفس الوجبة وسموها وجبة سندويتش.. اشتهرت الوجبة وطافت العالم كله، وفرضت الحياة بإيقاعها السريع هذا النوع من الأكل ليتوافق مع طبيعة الزمن..
فيما بعد أراد ثلة من أصحابنا اللغويين تعريب الكلمة لتجاوز الاسم الإنجليزي فأسموا الوجبة "شاطر ومشطور وبينهما طازج".. بالطبع فشلت الترجمة وسقطت في مهدها؛ لأنها لم تكن ترجمة..
كانت قصة قصيرة.. الناس أرادت اختصار الأكل فتورطت باختصار الكلام.. هذه مقدمة مملة لموضوعنا.. يتردد كثيرًا منذ سنوات الحديث عن المحتوى.. ينبري المنبرون على المنصات ويطالبون الصحافة بتغيير محتواها؛ ليتواكب مع العصر والسرعة والعالم الجديد المتجدد.. لكن لو سألناهم كيف نغير المحتوى؟! كيف نتجدد؟! كيف نتطور؟! تأتي الإجابات متشابهة مثل تلك التي يدلي بها اللصوص أمام المحققين المحترفين في الجلسة الأولى..
الصحافة خبر ومقال وعنوان وصورة وتقرير وتحقيق واستطلاع وقصة خبرية.. لا تخرج كثيرًا عن هذا الإطار.. هذه بضاعتها.. فإذا فعلت شيئًا آخر لا تصبح هي نفسها الصحافة التي يعرفها العالم ونعرفها.. مطلوب منها دعم تقاريرها بفن الإنفوجرافيك.. مطلوب منها اختيار كتاب يستحقون الظهور أمام قرائها.. مطلوب منها تقارير قوية تلامس الواقع..
مطلوب منها تحقيقات واستطلاعات جريئة وتجيب عن أسئلة الناس.. مطلوب منها قصص خبرية تكتب بأسلوب وصياغة متفردة.. مطلوب منها البحث عن نخبة المصورين الملهمين الذين يتعاملون مع الصورة كما يتعامل نزار قباني وبدر بن عبدالمحسن وفائق عبدالجليل وفاروق جويدة مع قصائدهم.. مطلوب منها عنوان يفكك كل الخيوط المتشابكة وينثرها في الفضاء..
أبدًا أبدًا ليس المطلوب منها تقديم أدلة جديدة ساطعة وواضحة ودامغة، لتتبرأ من ابتعاد الناس عنها.. عندما تعزف الناس عن سماع ألحان بليغ حمدي مثلًا، فليس هذا جرمًا يفترض أن تشرع له محاكمة عاجلة، يوضع فيها الموسيقار الاستثنائي في قفص الاتهام بجانب القتلة والمختلين والمزورين وتجار المخدرات..
لا تطيلوا الحديث عن المحتوى الصحفي.. فليس هناك يا رفاقي أي جديد.. إذا ماتت صحافتكم فتذكروا أن السندويتش وجبة رخيصة.. ولا تزال على قيد الحياة.. هل وصل جزء من الرسالة..؟!