أولئك آبائي
يؤذي مسامعك ويعكر مزاجك ويعسف جوك ويسد نفسك، وربما تتطور الحالة ويصيبك ولو مؤقتًا بانخفاض حاد في ضغط الدم.. أقصد ذاك الذي يجلس واضعًا قدمًا على قدم، مطلقًا للسانه العنان، ملقيًا اللوم والملامة والعتب والعتاب على القدامى؛ لأنهم لم يكونوا كما يتمنى، وكما يريد، وكما كان يحلم..
إذا كنت بشرًا سويًّا فإن الوقاحة تضايقك حد الألم وحد الأسى وحد الأنين والشجن.. يمكن وبسهولة أن تقدم نفسك مزدهرًا ومتطورًا ومتمدنًا وسابقًا نظرائك ومعاونيك بمئة ألف سنة ضوئية.. الأمر بسيط جدًّا.. ولا يحتاج أن تبذل جهدًا أو تقدم فكرًا أو تعطي مبادرة من أي نوع..
المطلوب منك فقط فتح باب الشتائم والانتقاص من كل السابقين الذين مشيت على خطاهم.. أولئك الذين علموك الصنعة وعلموك المهنة، وتحملوا عنك كل عقبات البدايات الصعبة، ومهدوا الطرق المحاطة بالأشواك والمتاعب.. بدايات الصحافة السعودية لم تكن هينة ومثل شرب الماء.. كانت المهنة الحضارية هذه تمر بمخاض عسير، حتى ولدت وتشببت وشابت وقوى عودها..
حدث هذا على أيدي عمالقة كبار بأفعالهم وصبرهم ورهانهم الرابح.. أخذوا الريادة والسبق والأولوية.. وجاء وقت على أقل تقدير يجب فيه احترامهم وإجلالهم وتقديرهم.. اتركوا الآن مسألة أعمارهم وميلادهم وشيخوختهم؛ فهذه وحدها تجبرك على التعاطي معهم ومع تاريخهم وتجربتهم، بكل أصناف المودة والمعزة والتبجيل..
تلك القائمة من الرواد الصحفيين المبتدئين الذين سلكوا هذه المهنة، كالذي يشق دربًا وسط الجبال الوعرة.. تحملوا صنوفًا من الأحمال المرهقة.. كل مهنة جديدة يبدو مستقبلها مظلمًا ومعتمًا ومجهولًا.. أن تتصدى لاقتحام واستهلال الأبواب الموصدة؛ فهذا يحسب لك لا عليك.. الريادة وحدها صناعة الأفذاذ والأبطال وبعيدي النظر..
الصحفيون المعتّقون ربما لا تتفق مع كثير من طرحهم وآرائهم وأطروحاتهم وتوجهاتهم وأفكارهم، لكن في آخر الطوف والمطاف لا يحق لك أن تتبجح وتهمش وتسفه وتحقر وتقلل مما فعلوه.. أنت يا صاحبي لم تعش واقعهم ولا ظروفهم، ولا كيف كانت تدور الدوائر حولهم.. لا نطلب منك أن تقول إنهم أمثالك العليا، ونجومك الذين أضاؤوا لك العتمة.. أظنهم فقط يريدون منك الاحترام.. المهندس المعماري لا يقف أمام عمارة قديمة مهترئة ويسخر من فكرة توزيع الغرف والأدوار والمخارج واختيار الألوان..
لماذا لا تقولون كما قال أبوكم الفرزدق حينما شتم "جرير".. وقال: أولئك آبائي فجئني بمثلهم...
هؤلاء آباؤكم.. احترموهم حتى إشعار آخر.. حتى لا يأتي أحفادكم ويشتموكم..ذرية بعضها من بعض..!!