كنت رئيسا للتحرير
لا أحد يحترف الصحافة، إلا يتمنى بكرة وعشيًّا أن يجثو على كرسي رئاسة التحرير.. يحلم والأحلام ببلاش.. أن يصحو من منامه ومرقده، وقد زفت له البشائر بتوليه المنصب الكبير في الجريدة..
أكرمني الله من واسع فضله بهذا.. أكثر من ثلاث سنوات كنت فيها رئيسًا للتحرير.. بالنسبة لي كانت تجربة مثيرة وثرية.. سأروي قصتها وتفاصيلها في كتاب قد يرى النور قريبًا.. بالتأكيد لن أكشف أسرار الرجال؛ فهذه أمانة نعرف صونها وصيانتها.. لكنني سأقلب صفحاتها من باب العبرة، وكشف كل ما يتعرض له رئيس تحرير لا يعرف الكثيرون ماذا يفعل..
يجد هذا الرئيس نفسه مضطرًا غير باغ أن يلعب دور مدير المدرسة؛ فليس كل العاملين في جريدته رجالًا عقلاء، إذا آمنا أن الصحافة مهنة مكتظة بالجنون والمجانين..
يلعب أحيانًا دور قاضي المحكمة، وأحيانًا أخصائي اجتماعي لإصلاح ذات البين.. يتحول إلى مفاوض شرس لاقتناص أعلى رقم وأكبر مكاسب خلال معركته السنوية أمام الإدارة..
تنقسم الصحف إلى إدارة وتحرير.. تتولى الإدارة المسار المالي.. التحرير يسعى جاهدًا لانتزاع رقم مادي عالٍ؛ من أجل استقطاب أفضل الكفاءات..
الإدارة لا يهمها سوى المرابح.. ذلك صراع أزلي داخل صحف العالم كلها.. هناك اختلافات طفيفة في بعض التفاصيل الصغيرة.. ما يهمنا أن رئيس التحرير يؤدي مهام متشعبة ومتناقضة ومتعاكسة، تجعله يعيش في شتات مع نفسه..
يرقص رئيس التحرير مع الثعابين كما كان يصف الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح نفسه.. يرقص بقدم واحدة ويحاول بقدر ما ترك له الزمن أن يحافظ على توازنه ولا يسقط..
رقص مع قارئ كان لا يرحم.. رقص مع خبر مشكوك في صحته ومصداقيته.. رقص مع زميل عمل ومهنة يريد أن يتضاعف راتبه ومكافآته كل ثلاثة أشهر.. رقص مع صديق يتولى مسؤولية وينتظر ألا يمسه الضر بحرف واحد في الجريدة.. يرقص مع الوقت لأن الوقت لا ينتظر مع الأسف..
يرقص مع تحدي التقنية وأسلحتها الفتاكة..وأمام جيش من العقبات والصعوبات والمشاكل والمصاعب لا يحسب له النجاح المطلق إن هو تحقق.. شريك في الصح فقط..
الأخطاء والهفوات والتجاوزات والفشل فهذه تقع على رأسه دون سواه. يتحصل رؤساء التحرير عادة على رواتب شهرية عالية ومجزية ومرتفعة ومغرية، ولا يعرف الناس أن السبب الأول وراء تلك المبالغ التي يحسدهم عليها الحاسدون، ليس إبداعهم وتميزهم وقدرتهم على التعامل الصحفي المهني، وإنما أولاً بسبب التصدي لكل تلك المشاكل بقلب الأسد.. رئيس التحرير إنما هو حائط صد..
حينما تسقط مطبوعته فالكل يحملونه أسباب ومسببات الإخفاق والخيبة والتعثر والانكسار.. يحمل على يديه المرتعشتين الزلل والكبوة..
أما التفوق والغلبة والانتصار فدمه يتفرق بين فريق العمل، إذا فشلت المطبوعة فرئيس التحرير بالفعل كان فاشلاً؛ لأنه على أقل تقدير لم يحسن اختيار فريق يساعده ويعاونه..
أما إذا نجح فربما يكون لديه فريق مؤهل وباستطاعته قيادة رئيس تحرير متواضع الخبرات والإمكانيات إلى بر الأمان.. رئيس التحرير هو ذلك اليتيم الذي تحدث الرئيس كيندي عنه عندما قال: "النجاح له ألف أب.. أما الفشل فهو طفل يتيم..".
أيها الرؤساء الأيتام.. أعانكم الله..!!