الأسماك تسبح في قفص العصافير!
من هو بيكاسّو؟!، إن تركنا الهامش: تاريخ الولادة، والوفاة، واليوميات الصاخبة والغاضبة، وعلاقاته النسائية، إن تركنا كل هذه القشور، يمكننا الوصول إلى المَتن، بيكاسّو هو الذي جعل "الطيور تطير في إناء السَّمك، بينما تسبح الأسماك في قفص العصافير"!،
لجون بيرجر، كتاب أخّاذ، ترجمه د. فايز الصّيّاغ، بعنوان: "بيكاسّو: نجاحه وإخفاقه"، ويا للمفارقة، فما أن طُبع الكتاب، حتى جاء الربيع العربي!، كأنّ بيكاسّو، لا يَحِلّ إلّا مودّعاً!، وهل كانت أعماله، جمالاً وجدليّةً، غير تحيّة إجلالٍ، مُتهكّمٍ، ألقاها في وداع تراث الرسم كلّه؟!،
ظنّ جون بيرجر، أنه كتب كتابه بعاطفة، نابضة بالمحبة، وودودة، لكنه فوجئ بعد صدور الكتاب 1965، بسيل هجمات وشتائم من كل مكان، اتُّهِم الكاتب بالغطرسة، والكتاب بالخبث!، كان بيكاسّو وقتها على قيد الحياة، متجهاً إلى آخر قطرات شيخوخته، لكن مجده كان فتيّاً، وجماهيريّته كانت من العنفوان، بحيث لا تسمح بالتشكك فيه أو الانتقاص منه، ولألسنة محبيه،
مالأعماله من وحشيّةٍ، في ظاهرها على الأقل!، بعد سنوات صار يمكن لهذا الكتاب أن يُقرأ من جديد، بل وأن تتكشف حتى لمحبي بيكاسّو، كم في الكتاب من جوانب بهيّة!،
في هذا الكتاب، الرشيق، يمكن لك المرور على تاريخ فن الرسم كله، على الأقل يمكن لك معرفة ما الذي فعله فنان مثل سيزان، ليكون الرسم قبله شيئاً، وليصبح الرسم بعده شيئاً آخر!، فقط لأنه "لاحظ أنه إذا ما حرّك رأسه قليلاً إلى اليمين، فإنه يرى جانباً مما أمامه، مختلفاً عمّا قد يراه إذا ما حرّكه إلى اليسار"، تجربة طفوليّة، مرّت علينا كلنا، ويمكن لأي طفل، أو غيره، اختبارها مجدداً، فيما لو أغمض إحدى عينيه بالتناوب!،
أمّا بيكاسّو، فحكايته كاملة في الكتاب، شبقه، وطمعه، وطموحه، وجنونه، إنسانيّته ولا إنسانيّته!، طيش الشباب وجموح الموهبة، خبرة السنين وحُرقة المُسِن!، خيال الصِّبا، وخَبَال الشيخوخة!، إعجازه ولا عجزه!، وماذا فعلت به، وغيّرت منه، وطوّرت فيه، مآدب "الجنتلمانات" والحروب معاً!، بيكاسّو، الذّات، والانقلاب عليها: الرسم الذي يلعن نفسه، ومن الإهانات والتسفيه،
صار مبجّلاً!،
في الكتاب أيضاً، قراءات عميقة، نابهة، لعدد من اللوحات، تقرأها، فيتأكد لك أنك لم تُشاهد هذه اللوحات من قبل أبداً، مثلما تشاهدها بعد هذه التأملات الشاعريّة، ليست اللوحات فقط، ستتغيّر نظرتك لستارة المسرح، وشاشة السينما، ولسوف تصعد برج إيفل، تحديداً، بطريقة جديدة، وبعينين لم يكونا في رأسك من قبل!، وفيما يخص الرسم ستقترب، من الإمساك باللون، بالشكل اللوني، وكم هي المادّة اللونيّة زاخرة بالشحنات!، وستعرف دقائق أمور، مثل أمر الجِنس، وكيف أنه موضوع رسم، أكثر منه موضوع شعر، مهما حاول الرّسّامُون تجنّبه، وعلى كثرة ما تطرق إليه الشعراء!،
يصبّ الكتاب في كأسك شيئاً من سحر الفن، ذلك السحر الذي "قد يكون ضلالةً، بيدَ أنه أقل مغالاة في الضلالة من المذهب النفعي"!،
غداً، بإذن الله، وفي "بلكونة" الجمعة، المخصصة لالتقاطات من الكُتب، سوف يكون لنا موعد آخر، مع هذا الكتاب، بطريقة أُخرى.