الشعر وخيبة الترجمة!
قرأت أزهار الشر لبودلير، ولم أصل إليه!، قرأت الديوان الأشهر، في أكثر من مرحلة عُمرية، وبأكثر من ترجمة، لا اهتزّت سكينةٌ، ولا ارتجّ شغفٌ!.
قرأتُ عن أزهار الشّر لبودلير، عرفتُ، وفهمتُ، وتعلّمتُ، واستفدتُ، عدتُ لأقرأ أشعار بودلير، لأقرأها هي، لا عنها، فلم أطرب، ولم أشرب!.
كل ما وصلتُ إليه: عشق من وراء زجاج ضبابيٍّ، ويا لزجاج ترجمة الشعر، حتى وإن صفا، فإنه يحبس العِطر!.
الشعر ليس إلا نغمات وإيقاع، والترجمة، مهما طابت وأصابت، عاجزة عن نقل النغمة والإيقاع، يمكن للترجمة أن تكون عظيمة الفائدة، وهي كذلك، حين تنقل إلينا الفكر، ممثلاً بشروحات، بمفاهيم ومعانٍ، لا بمشاعر وأحاسيس، وعاطفة خالصة!.
والشعر ليس إلا مشاعر وأحاسيس وعاطفة، يمكن إضافة الحساسية لكل هذا أيضاً، بل لا بد من إضافتها، فالشعر أكثر فنون الكتابة حساسيةً في اللغة ومعها، وهو لذلك يُحافظ على جسد صاحبه، ففي حنجرة الشاعر، ومن خلالها، يمكن لنا قطف حساسيّة الكلمة، كأننا نشهد اللحظة الأولى للانفجار الكوني، لبداية النص، لشهوته الأولى!.
والقارئ الجيّد للشعر، يشعر أثناء قراءته بزهوٍ، هو أحد أنواع الزّهو القليلة البريئة من الغطرسة، وسبب زهوهِ أنه بقدرته على توزيع الأنفاس ثياباً للكلمات، ونبرات الصوت أزراراً لهذه الثياب، وأكماماً، وزيناتٍ أُخَر، يشعر وكأنه وُلِد مع النص، وأن النص الشعري جاء من أجله هو، روحاً أو جسداً أو حتى ظلاًّ، لا يهم، المهم أنه جاء معه ومن خلاله، مثلما جاء مع الشاعر ومن خلاله، القارئ الجيّد للشعر، لا يشعر لحظةً واحدةً أنه آلَة، لا عَالَة، على ما يقرأ، ولا يشعر أن القراءة واجبة عليه، بل هي حقّه، القارئ الجيد للشعر حين يقرأ شعراً جيّداً، لا يشعر أن هذا حق من حقوقه فقط، يشعر بما هو أكثر تمادياً: أن هذا هو حقه الوحيد، ولا يريد حقوقاً أخرى سواه!، وتُعذّبه الكلمة المُترجمة إن هي لم تبطش بكل قوانين الأرض، لتصبح أصيلة لا بديلة لغيرها من الكلمات!.
يُمكن لأيٍّ منّا، أن يُجرّب بنفسه، استحالة ترجمة الشعر، دون سقطاتٍ غير مُبجّلةٍ!.
دون الحاجة إلى معرفته للغتين، حاول أن تُترجم، ترجمة شعرية، نصاً من الفصحى إلى العاميّة أو العكس، لن تفوز بغير خيبة!، وأنت حتى لو حاولت الترجمة من الفصحى إلى الفصحى، أو من العاميّة إلى العاميّة، فالخيبة قائمة!.
في حين أنك تقدر، بسهولة ليست مضمونة على أي حال، على مثل هذه الترجمة، فيما لو كنت أمام كتاب فكر ومفاهيم، وبكثير من الحذر، يمكنني إضافة روايات وقصص، خاصة تلك التي قيمتها ليست في غير "الحدّوتة ـ السّالْفَة"!.
أعود لبودلير، وأكتب: لذلك كله، لم أصل إليه شاعراً، مع يقيني بفخامته،و قيمته، غير أن الشعر: ترنيمة، وغيمة، وليس قيمة!.
أخيراً، اقتربت من أحاسيس بودلير، في يوميّاته التي كتبها نثراً، لا شعراً، يوميّات لم تُنجز، في جزء كبير منها، بشكل تام، ملاحظات، وخطوط لتذكيره بشيء ما، وخربشات، عُثر على بعضها صدفة، وتم جمعها فيما بعد، ونشرها في كتاب، لم يأخذ أحد، في مسألة نشره، رأي بودلير نفسه!.
لنا مع هذا الكتاب وقفة، بعد أيام، إن شاء الله...