2016-12-31 | 04:57 مقالات

جبناء السوشل ميديا

مشاركة الخبر      

اقتطع قارئ كريم، من مقالة الخميس فقرتها الأولى: "هذا الذي يعطيك الإشارة واضحة، الذي يُصرّح بأنه يلمّح، تاجر وليس فناناً، قد تكون لديه بعض الموهبة لكنه يتاجر بها، يكسب جماهير بانحرافه عن الجودة لصالح النجاح، ينتقل من رسّامٍ إلى مجرّد صبّاغ"، وقال: اعطنا أمثلة، واعترف، عادةً لا أجيب على الأسئلة، لا أشرح ولا أُضيف، إلّا إذا ما لقيت في الأسئلة والتفاعلات ما يُحرِّض على كتابة جديدة منفصلة أو متّصلة، لإيماني أن الكتابة فعل يجب عزله عن الكاتب بعد إنجازه، وأن على القارئ أن يقوم بأدواره، ومن أهمها أن يُتمّ بنفسه كتابة المقروء، وأن يجيب بنفسه على الأسئلة، وأن ينسب الفهم للفهم، ويربط المعرفة بالمعرفة، إلى أن يأنس برؤيته التي قد تتجاوز مفاهيم ومقاصد الكاتب وكتابته، فكل كتابةٍ هي على الأقل ثلاث كتابات متلاحقة، الأولى في رأس الكاتب كفكرة قبل الكتابة، والثانية في الكتابة نفسها، حيث اختيار الزوايا والمفردات، وتشكيل الجملة والعبارة، وانتقاء الأسلوب، وثالثة في فهم القارئ وقدرته على التلقّي والإضافة، بل وحتى التحوير، وفي كل من هذه الكتابات الثلاث محوٌ وشطبٌ وحذفٌ وإزالةٌ، وتصيّد للمعنى غير مضمونٍ، وغير مأمونٍ أيضاً، شارح الكتابة مُلزمٌ بشرح شرحه، ثم شرح شرح شرحه، ولن ينتهي، ولسوف يُفقد كتابته الأولى كل صفةٍ طّيبةٍ يُمكن أن تكون لها براءتها، وخفّة الحضور، واحتمالات المعنى، وحرّيتها في السباحة، ولن يكسب غير تحبيرات خائبة هدفها مُبتذل: حبس المعنى وتقييده، ونتيجتها فشلٌ صفيق، فالكلمات كلها مَجَازٌ، وأي محاولةٍ لتخليصها من المَجَاز خيبة تامّة ومَهانَة كاملة، لكنني، ولأن طلب القارئ الكريم هذه المرّة جاء مُحرِّضاً، فسأضرب مثلاً لذلك الذي "يُصرِّح بأنه يُلمّح"، وليكن سينمائياً هذه المرّة في فيلم "الآخر" لهيفاء المنصور، يُصبُّ ضوء الكاميرا على رقم لوحة السيارة لنقرأ الحروف الثلاثة المتممة للرقم: "أ خ ر"، هذا تصريح بالتلميح، وقد تكرر بما يثبت بجاحته في الفيلم المصري "هزّ وسط البلد" لمحمد أبوسيف، حيث الحروف على لوحات السيارات تُعنون كل مشهد، مثل "غ د ر"، أو "ر ع ب"، للدلالة على الغدر والرعب.. وهكذا، مثل هذه الفهلوة لا تُثمر إلا متلقيّاً منتفخاً، يظن أنه عبقري الالتقاطات، وأنه مُحصّن بهذه الخبرة الدّعائية، يصد أي تأويل أعلى ويرفض أي إيحاء أعمق، ويحكم على أي تلميح أصيل بالطلسمة والعبث. 

 

وللأمانة فإن المخرجة هيفاء المنصور تجاوزت هذه الدعائية سريعاً، وقدمت فيما بعد فيلماً حقيقياً رائعاً "وجده"، المثقل بخفّة تلميحات ضامِرة ورشيقة، و"هيفاء" فعلاً لا اسماً، بينما بقي محمد أبوسيف رغم تجربته الطويلة مُكبّلاً برغبة احترام الجمهور وأهل الحرفة له معاً، وفي كل مرة يخسر الاثنين معاً، ولا يكسب من كل طرف غير قشور مجاملات وإعجابات سطحيّة، مثل هذه الفهلوة الخائبة هي التي تحوّل الفنان من رسّامٍ إلى صبّاغ، وخطرها أن الفنان الذي انحدر يفقد شرف المبادرة، ويذهب إلى السرقة أو التقليد، ومن شاهد فيلم "هز وسط البلد" سيحكم بسهولة على محمد أبوسيف بتقليد المخرج سامح عبدالعزيز الأصغر منه سناً وتجربةً.

 

وبمناسبة السينما والتلميحات الفاسدة، لايمكن إغفال اسم المخرج خالد يوسف، فكل أفلامه مليئة بهذه "الفشخرة" الكاذبة، وها هو ينتفخ زيفاً وبهتاناً كأحد أهم المثقفين في مصر. 

 

صناعة الأحذية مهنة شريفة، لكن لا يحق للإسكافيّ أن يتصرّف كمُعلّمٍ للمشي أو الركض، ورغم أن مشاهِد الإيحاء، وللإضاءة على النقيض، حيث التلميح الخصب الواثق من نفسه والآخر، سأكتفي بالمشهد الأخير من فيلم "سواق الأتوبيس" لعاطف الطيب، حيث ينزل سائق الأتوبيس من السيارة موقفاً حركة الشارع، غير آبهٍ لضغوطات المارّة وصيحات أبواق سياراتهم، يلحق بالسارق يضربه، والكلمات: "يا ولاد الكـلب.."، والموسيقى التصويرية لحن"بلادي بلادي بلادي" الشهير، وفي الخلفية من البعيد يظهر مبنى الحزب الوطني.

 

أعود للمخاطر التي يمكن لهذه المواهب المُتاجِرة توريط الفن الجميل بها، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر إنتاجها لجماهير ترى أن من حقها عليك فرض إلغاء الموسيقى، مثلاً، من حياتك ويومياتك في برامج التواصل، فقط لأنها تتابعك، يدعمها في ذلك خوف ورعب بل ورضوخ مُذِلّ لعدد من مشاهير السوشل ميديا، لمثل هذه الأوامر، يا للقرف من أن يصير شعار: "الزّبون دائماً على حق" مبدأً فنيّاً وأدبيّاً، وأن تصير حياة كل منّا مجرّد قائمة طلبات "MENU"، ومجرد شعارات لامشاعر، بسبب حفنة جبناء مُراهقي شُهرة، ليس لهم من الفن جَنَاحٌ، وعليهم منه جُنَاح، وأترك لفطنتكم ما تقترحه عليكم من نجوم الشعارات البرّاقة بمشاعر مهترئة، كتّاباً وشعراء وفنّانين وحتى مشايخ دين.

 

لقطة ختام:

تغني ميّادة، ويميد القلب: "سيبوا لي قلبي وارحلوا.. لا اسأل أنا ولا تسألوا".