2017-01-26 | 03:19 مقالات

“كيفي”!

مشاركة الخبر      

لا يجب أن يغضب كاتب.. أي كاتب، من أن شخصاً بعينه لم يقرأ له، مثل هذا الاستياء يمكن فهمه فيما لو كان الكاتب يخط رسالة شخصيّة، أما الاستياء لدرجة اتخاذ موقف عدائي، أو الظن بأن قارئاً معيّناً مُحدّد الشخصيّة والاسم يقف ضده.. لأنه لم يقرأ له، فهذه أنانيّة وغطرسة وتَشَاوُف وغطرسة، ولا يدلّ إلّا على أمرين: ضعف وجهالة، ضعف لأن هذا الكاتب خضع بعاطفته وعقله لحكم شخص محدد، أو عدّة أشخاص بعينهم على نتاجه وعليه، وهذا معيب ومهانته واضحة، الكاتب هنا كاذب، وفي داخله يعرف أنه ليس أكثر من نَديمٍ فاشل، ومهما كانت قيمة الذين نودّ أن يقرؤون لنا، ومهما كانت محبتنا لهم عميقة، ورغباتنا في التواصل معهم جامحة، فلا علاقة لأيٍّ من هذا، ولا لكل هذا، بأمر الكتابة ذاتها، وبحرفة الكاتب ذاته، وحتى فيما لو تحوّلت كتابة ما إلى رسالة في واتساب، أو رابط في تويتر، أو تم تقديم الكتاب هديةً، أو عُلِّقَت على غير ذلك من حِبال التواصل، فإن امتناع الطرف الآخر من أن يكون قارئاً لها، أمر لا يوجِب الاحتداد والاشتداد والوغر والبَرْطَمَة، فليس نقيض كلّ ما يسرّنا: عويل.

 

أمّا الجهالة، فكامنة في فهم الكاتب لطبيعة القارئ وعلاقته مع الكتابة، القارئ في حقيقته الكبرى مَجَاز، في ثُلثين منها على الأقل ليس سوى مَجَاز، ما لم يتعلّق الأمر بمصالح تجاريّة، أو نعرة انتفاخ.

 

في الشّغل الفني والأدبي، يمكن مشاهدة القارئ في ثلاثة أشكال ومراحل وحالات، أولها رؤية القارئ مُجرَّداً، بمعنى أوضح وأبسط رؤيته كمحلومٍ به، كمثال غير قابل للتجسّد، وإلا فإن الكتابة ستكون مجرّد رسالة “شخصيّة” لا تستحق طباعتها وعرض نسخ منها للجميع، بمن فيهم من سيُولدون بعد الكتاب بخمسين سنة أو أكثر، الوجه الثاني للقارئ، هو وجه أدبي يتضمّنه العمل الفني نفسه كشرط من شروطه، ويمكن تسميته بـ”المسرود إليه”، وهو غير القارئ الحقيقي الموجود فعليّاً في الحياة، أظن أنه يلزم توضيح الصورة، حسناً، يمكن القول إنه مثلما يتوجّب الفصل بين الروائي والرّاوي في العمل الأدبي، بحيث إن الروائي هو المؤلّف، وهو حقيقي وموجود على الأرض، بينما الراوي هو سارد الحكاية، وهو شخصيّة داخل العمل الأدبي، جزء من العمل نفسه، لا يتواجد خارجه، هو أحد شخصيات الرواية، وهو بذلك وهمي ومُتخيَّل، مثله مثل بقيّة الشخصيات في الرواية، فإن القارئ في حالته الثانية، المُقابِلة لشخصية السارد، هو شخص وهمي ومُتخيَّل وجزء من العمل الأدبي نفسه، إنه “المسرود إليه”، لا أنت ولا أنا، لكنه الذي تخيّل السارد الذي ذاته من الخيال، إنه يستمع إليه ويقرأ له.

 

ثالث حالات وأشكال القارئ، هي التي نمثلها نحن، أنت وأنا ومن حولنا، ميزتنا أن كل واحدٍ منا محدّد ومُشخّص وحقيقي، لكننا بالنسبة للكاتب يجب أن نكون وأن نبقى قرّاء افتراضيين.

 

الكاتب الذي يقفز على قرّاءة المتقدّمين في المرتبة والأهميّة: القارئ المُجرّد، والقارئ المسرود إليه، والقارئ المفتَرَض، طامعاً في الوصول إلى أحدنا بعينه وشخصه واسمه وصفته، بحجّة المحبّة أو الولاء، أو أيّ حجّة كاذبة أخرى، فإنه ليس سوى تاجر سييء، يغش ويخون، أو جاهل أو عديم الموهبة، ومثل هؤلاء لا يجب أن يُغضبنا غضبهم، يضربون رؤوسهم في الحائط، وعندها يمكن لنا التّسلّي بلعبة تحديات مضحكة: أيهما الرأس وأيهما الحائط؟.

 

القراءة حريّة شخصيّة، وهي حريّة تامّة، وأجمل ما في الفن كتابة وقراءة، إنجازاً وتلقيّاً، يمكن اختصاره بكلمة عاميّة واحدة: “كيفي”.