زياد الدّريس.. شارة ونضارة
مودّعاً عمله في اليونسكو، غرّد زياد الدريس شاكراً محبيه وأصدقاءه وكل الذين ساندوه، شعرت بخجل كبير، فقد بحثت لنفسي عن مكان بينهم ولم أجده!.
أعترف: لم أنتبه لزياد الدريس مُفكِّراً وكاتباً، إلا قبل أيام!، أعرف الاسم والمنصب، ولكنني كنت غافلاً عن حقيقة هذا الأديب، عن نباهة اللغة ورشاقتها، عن قدرة العبارة على أن تحتفظ بكامل وعيها، ومسؤوليتها، والتزاماتها الفكرية والاجتماعية، دون أن تفقد من شاعريتها حفيفاً أو رهيفاً!.
قرأتُ وداعيّته لعمله في اليونسكو، كنت أحسب أنني سألتقي بخطبة حزينة بعض الشيء، ومُجامِلة بعض الشيء، أعترف لم أكن أتوقع أنني سأكمل القراءة، عنوان المقالة نفسه لا يوحي بالكثير: "هكذا علّمتني اليونسكو"!، لكنني وبعد سطرين من القراءة، لقيتني في دنيا من الأدب فارقة، خفضت صوت التلفزيون، وأعدت القراءة، غرّدتُ بعدها أنني أمام واحدة من أجمل وأروع الكتابات التي قرأتها على الإطلاق.
المسألة ليست عبارات منمّقة، ولا كليشيهات مستغلّة لكسل الناس في القراءة، توهمهم بقدرتها على قول كل شيء في سطرين، بينما هي لا تقول شيئاً، وبالرغم من ذلك، أو بسببه، يكسب أصحابها جماهيرية واسعة؛ لأنها تدغدغ مشاعرهم، وليس في ترديدهم لها صعوبة ولا خطورة ولا إعمال فكر!.
زياد الدريس يكتب بطريقة أخرى، بفكرٍ قادر على تأمين لغته من خلال موهبة مصقولة، وعبر أخلاقيات أدبية وإنسانية عالية القَدْر والمقدرة، لا يشبه أحداً ويستوعب الجميع!، بعد هذه المقالة، قلبت الدنيا بحثاً عن كتابات أخرى له، كتابه الرائع "قل لي من أنا.. أقل لك من أنت: كلام في سوسيولوجيا الثقافة"، أنقذني من نفسي، من حرجي من جهلي، فقد ضم عدداً كبيراً من مقالاته، التي لا مثيل لها شارةً ونضارةً.
قلادة اليونسكو التي طوّقت عنق زياد الدريس، والتي تُمنح عادة لرؤساء الدّول، لا تكفي للتعريف به، ومن كان جاهلاً به مثلي، عليه أولاً وقبل كل شيء، البحث عن كتابات وكتب هذا الرجل، القامة والقيمة، ليتمكن على الأقل من الاعتذار لنفسه، وليمكِّن هذه النفس من قبول الاعتذار.