العاشق حين يكتب رسالة!
رسائل الجفاء، طلب القطيعة أو إعلانها، الطلاق والفراق، تُكتب مرّة واحدة، أو أنه يُمكن لها، وكثيراً ما تُكتب مرّة واحدة.
لسان الغاضب وقلم الباغض لا يتردّدان!.
ـ العاشق يكتب رسالته مرّتين على الأقل، يكتب كل جملةٍ منها مرّتين على الأقل، أربع أو خمس مرّات غالباً، وقد يكتبها عشرين مرّة، ثم لا يُرسلها!.
ـ طالب القطع يريد أن يُصدر حُكماً، طالب الوصل يريد أن يحكي حكاية!.
ـ وكلاهما المُحبّ والمُبغِض، طالب الوصل وطالب القطع، يندمان، أو يحس كل منهما بخطفة ندم، بعد تأكده من أن أمر الرسالة لم يعد في يده، وأنها أُرسلت بالفعل، وصارت إمكانية استلامها من عدمها في يد الآخر، وليست في يده هو.
ـ يندم الباغض لأن الأمر خرج من يده، هو الذي أراد، عبر رسالةٍ، أن يحكم، لم يعد قادراً على التحكم!.
الرسالة أفْنَتْهُ، وتركت بقيّة الأحداث للآخر، الآخر فقط يقدر أن يقرأ وأن يتجاهل أو يتفاعل، أن يمزّق الرسالة بغضب، أن يرميها في سلّة المهملات بهدوء، أن يرد أو أن يُكمل طريقه وكأن شيئاً لم يحدث!.
ـ يندم العاشق لأن الكلمات لم تُسعفه لقول ما يريد قوله حقّاً، حين تَحَوّل الإحساس في القلب لمعنى في الكلمة قلّت حرارته!، وفقد من طاقته وبريقه ما لم يكن في الحُسبان!.
ويلوم العاشق نفسه، فقد كان يعرف أنه لم يصل، وأنه اكتفى بما شطب وأضاف، لأنه تَعِب، لأن الكتابة أرهقته ليس إلّا!.
ـ الفرق بين المُحِب والمُبغِض هنا أن المُحِب يشعر، بينما المُبغِض يسعر!.
ـ ألسنة العشّاق هي التي تتردّد!، ومحبرة المُحبّ هي التي ترتجف، ويد المُوَلَّه هي التي ترتعش!.
ـ المُحِبُّ شَطَّابٌ كَتَّابٌ!، مَسَّاحٌ مَزَّاحٌ!.
ـ مَسَّاحٌ من المسح والمساحة!.
مسّاحٌ من المسح: الحذف والمحو والإضافة!.
ومَسّاحٌ من المسَاحة: البُعْد والقُرب والمسافة!.
ومَزّاحٌ من المزح والإزاحة!.
من المزح: اللعب واللهو واللطافة!.
ومزّاحٌ من الإزاحة: الحلم والتأويل والخُرافة!.
ـ العاشق يقدر شفهياً على التعبير أكثر منه في رسالة مكتوبة، حتى وإن تصبَّب عَرَقاً، ومهما تلعثم، وأيّاً كانت درجة الحرج التي يشعر بها!، وهو في المشافهة أقل ندماً حتى لو توهّم قبل البدء أنه سيكون أكثر ندماً، وأنه فيما لو كان قد كتب رسالةً وأرسلها لكان أفضل!.
ـ في المشافهة يجد المُحِبُّ المساعدة، من ملامحه وتعابيره، ومن قدرة الكلمات على الفَناء سريعاً!، تحلّ مكانها كلمات أخرى زائلة هي الأخرى!، وبزوال الكلمات لا يظل غير طيفها، لا يبقى منها غير ما لا يُمسَك!.
وفي الحب: البقاءُ لما يُحَسُّ لا لما يُلْمَس!.
ـ في الكتابة تَثْبُتُ الكلمات، يدوم حضورها مهما جاء بعدها من كلمات، تظل قابلةً للمُراجعة والتمحيص من الطرف الآخر!.
ويكون معناها مربوطاً بحبل لا يمكنها الانفلات منه والذهاب لأبعد من مسافته!.
حسرة العاشق تتضاعف، ذلك لأنه هو من حَرِص على أن يكون الحبل مفتولاً بهذه القوّة، يتمنّى لو أنه أبقى على رسالته دون تهذيب أو تشذيب أو محوٍ أو إضافة، لو أنه اكتفى بها كما هي أوّل مرّة!، يكاد يحسُد طُلَّابُ القطيعة على ضيق مَعَاجِمهم، وطواعية الكلمات وحُسن خدمتها لما يريدون من المعاني!.
ـ البغض قائمٌ في كلماته، حيث هي "هنا" هو كذلك "هنا"!.
الحب لا يقيم في كلماته، هي "هنا" وهو دائماً "هناك"!.
ومهما حاول العاشق الوصول إلى هناك، يكتشف أنه انتقل من "هنا" قديمة إلى "هنا" جديدة!، وأن مشاعر الحب انتقلت من "هُنَا....هُ" الجديدة إلى "هناك" جديدة!.
ـ كل شروط الفن تكاد تنطبق على العاشق، إذ يكتب رسالة لمعشوقه، لكن هذا لا يكفي لإنجاز فن أو إقامة أدب، على العكس: أكثر من شوّه الآداب، وهدّ حيل الفنون، يكمن في هذا اللّبس: ما إن يُحب أحدهم ويكتب رسالةً، خابت أو صابت، حتى ظن بعدها أنه شاعر أو كاتب قصص!.