الموسيقار العجيب!
ـ نشأ في بيئة دينية وكان والده فلّاحاً، وكان الصغير لشدّة الفقر نحيلاً وواهناً، لدرجة أنه مات!،.
مات رسمياً وهو في الثانية من عمره!، صدرت له شهادة وفاة رسميّة، لكنه أفاق وهم يُغسِّلونه استعداداً لدفنه!،..
ـ بدأ الغناء صغيراً جدّاً، قسوة المُعلِّم على الأولاد، قفزت به إلى حلمه، كان مرسوماً له أن يكون مُقْرِئاً، ثار على ما هو مرسوم له وصار مغنيّاً، كان يعرف أن عائلته تعتبر ذلك عاراً، فغنّى باِسم مستعار "محمد البغدادي"!، لكن هذا لم يمنعه من أخذ علقة ساخنة وخمس قُطَب في رأسه!،..
ـ حكاية الموسيقار محمد عبدالوهاب تبدأ من هنا ثم لا تنتهي، وعجائبها عجائب، ففي صباه قَتَل رَجُلَيْن!،.
تخيّل؟!، بمساعدة رفيقين له قَتَل محمد عبدالوهاب رَجُلَيْن أجنبيين من حيّ الأرمن أثناء ثورة 1919، بعدها انضم لفرقة الريحاني، وصدح "ويلاه ما حيلتي"!،..
ـ في زيارتي لمتحف أحمد شوقي في القاهرة، وقفت الفترة الأطول في المكان الذي أسماه شوقي فيما بعد "عش البلبل"؛ لأنه اكتشف فيه عبقريّة عبدالوهاب وتبنّاها!،.
كانت لحظات ساحرة، اقترحت على الشاعر المرافق لي تشغيل أسطوانة "مضناك جفاه مرقده" كخلفيّة موسيقيّة مصاحبة ودائمة، لم يتقبّل الفكرة، رأى أنها ربما تخدش هيبة المكان كمتحف، ربما كان محقّاً!.
ـ النَّضِر وليس الفاقع هو ما يميّز لحن عبدالوهاب، الزَّهْو الناتج من القدرة على الهجوم على المشاعر يُعجن مع التواضع الناتج عن الخضوع لهذه المشاعر، وكأن الهجوم على الأشياء دفاعٌ عنها!.
ـ جملة عبدالوهاب الحنونة أو الخصبة بالتأوهات، تتكشف تدريجياً وتتصاعد متّحدةً مع ما قبلها، وكأن الذّرْوة حصاد ناتج عن بذر وزرع سابِقَيْن، كأن الذّرْوة تتحسّس طريقها منذ البداية، القفزة الأعلى في اللحن لا تقتحم المكان فجأة، لكنها تتنامى فيه!،.
بعد أن تصل إلى الجملة التالية تحس أنها كانت مُتاحة لك، كان يمكن لك الوصول إليها دون مساعدة، لكنك لا تقدر على ما بعدها قبل أن تصل إليه عبر عبقرية عبدالوهاب، تشعر أنك كنت قريباً من الجملة الموسيقية، قريباً جداً، لدرجة لا يمكن معها لأحدكما رؤية الآخر!، وأن كل ما فعله عبدالوهاب هو المرور بينكما، دون أن يكون عذولاً، يفصلكما ومضةً، ليتيح لكما عناقاً أبديّاً: "أهواك وأتمنى لو أنساك"!،..
ـ حين تبدو موسيقى عبدالوهاب فقيرة؛ فذلك لأنها حقيقيّة، وهي حين تبدو غنيّة فذلك لأنها صادقة!.
ـ موسيقى صوفية ذات إيمان خفي لكنه لا يبدو ملتبساً!،.. وهي موسيقى بصريّة أيضاً!،.
ـ وبمناسبة البصر، أتذكر حواراً إذاعياً مع عبدالوهاب يحكي فيه كيف أصرّ على عدم التوقيع بالموافقة على لحن أغنية ليلى مراد "اتمختري يا خيل"، قبل أن يحضر تصوير مشاهد الأغنية في الفيلم، ذلك لأنه قام بتلحين الأغنية بناءً على وقع "تمختر" الخيل فعلاً، وبالفعل تم التصوير كما أراد، وإلى اليوم يمكنك سماع الأغنية ومشاهدتها سينمائياً، والخيل ترقص فعلاً على وقع الأنغام التي بدورها ترقص فعلاً على وقع الخيل!، كان يقول: ليست الأُذُنُ فقط، يمكن للعين أيضاً أن تشعر بالنشاز!،..
ـ موسيقى عبدالوهاب لها مزاج فردي لا يخفف من مهابته غير كرمه وسخائه!، مزاج فردي نعم لكنه ليس أنانيّاً أبداً!.
ـ كلمات مثل "كرم" و"سخاء"، تبدو كلمات غامزة، أو واجبة التقويس حين يكون الحديث عن محمد عبدالوهاب الإنسان، لكن حين يكون الحديث عن موسيقاه، فإنها كلمات خارج التقويس، تكاد تكون هي الأَهِلّة نفسها!،..
ـ والحديث عن عبدالوهاب، حياته وموسيقاه، يطول، كأنه ليل عاشق، لكني أتذكّر شهادة لأحد أصدقائي المقرّبين، وقد كان يعرف عبدالوهاب معرفة كافية، وله معه حكايات، يقول صديقي: ربما كان عبدالوهاب بخيلاً فعلاً، لو طلب منه أحد العازفين مبلغاً لإجراء عمليّة جراحيّة لابنه ربّما رفض، لكنه في المقابل على استعداد لأن يدفع أي مبلغ فيما لو سمع بأن آلةً موسيقيّة ذات نغمة جديدة، معروضة للبيع!، يشتريها قبل حتى أن يعرف ما الذي يمكن له أن يفعل بها؛ لأنه يعرف أنها ما إن تكون لديه حتى يعرف!،..
ـ وعليه فإنه لا يمكن لي أن أُعدُّ بخل عبدالوهاب، بخلاً عامّاً، فللرجل كرمه الخاص أيضاً!، لكنني أتحفّظ أكثر على مسألة أنه كان يخاف الموت، والأصح الأكثر دِقّةً هو أن عبدالوهاب كان يخاف المرض وليس الموت!، دليلي: أن من يخاف الموت، ويتطيّر من ذِكْره، لا يمكن له أن يحرص على جمع قصاصاته التي كان يكتب فيها مذكراته وآرائه، ليوصي زوجته بتسليمها للشاعر فاروق جويدة بعد وفاته!،..
ـ ولنا بإذن الله مع موسيقار الأجيال، عبقري الموسيقى العربيّة الفخم، وقفات أخرى، حسب الوقت والظَّرف والمزاج والقُدرة، طابت أوقاتكم.