الفن والأدب وعُقدة النَّسَب!
ما لم تتمكّن البداية من أن تصير أرضاً، فهي مجرّد محاولة وليست بداية!.
ـ يكاد يكون الشعر هو الفن العربي الوحيد الذي له أرض، وهو لذلك يكاد يكون أكثر الفنون والآداب العربيّة تقدّماً، وقدرةً على مزيد من التّقدّم، وبالفعل نهض الشعر العربي سريعاً على يد شوقي ثم السّيّاب وصلاح عبدالصبور ودرويش وأُنسي الحاج وأسماء كثيرة لا يُقلل من شأنها عدم ذكرها هنا، قبل أن يتوقّف لالتقاط الأنفاس، ومراجعة ذاته ومعطياته و...!،.
ـ وحتى هذه اللحظة، ورغم تسيّد المزاج الروائي للمشهد، فإنني أظن أن الشعر العربي هو الأقدر على الانعتاق والانطلاق أكثر من أي فن عربي آخر، ذلك لأنه كسب مبكّراً الاعتراف به كأدب وفنّ، وأنه كسب ذلك بقوّة لا يمكن معها مراجعة الأمر أو التشكيك فيه أو التخلّي عنه اجتماعيّاً، وهو ما لم يتمكن منه أي فن آخر كالرسم والموسيقى والغناء والرواية والقصّة والمسرح والنحت وغيرها من الفنون، الأمر الذي أبقى كل، أو معظم، هذه الفنون تصارع لكسب تأييد يمنحها اعترافاً بها لا تعريفاً لها!، وهي لذلك تُداهِن جمهورها حيناً، وترفضه حيناً، تخضع له وتتمرّد عليه، فيما يشبه كرّاً عبثيّاً وفرّاً مريضاً، يصعب رصدهما كحِرَاك فنّي وأدبي!.
ـ الشعر رمى عن كاهله نضاليّة كسب وتأكيد مثل هذا الاعتراف، وراح يبحث عن ذاته في ذاته، ويناقش مشروعه عبر أسئلة نقدية وفلسفيّة وجماليّة عميقة وحادّة وصادمة، وعبر تجريب أكثر جسارة!،..
ـ وهو حين يوغل في التجريب، يعرف أنه مهما جازف، ومهما شَطّ وخَطّ، فإن له مرجعية عميقة، يمكن له العودة إليها والبدء منها، دون خسائر في الأصل والصميم!، لأنه متخلّص أصلاً من عُقدَة "النَّسَب"!، شيء قريب من حكاية عنترة!، ربما لو تخلّص عنترة من عُقدة النَّسَب، لتكلّم عن الحريّة والمساواة أضعاف أضعاف ما تكلّم عن الشجاعة!،..
ـ الموسيقى، مثلاً، لم تكسب اعترافاً عربيّاً بها كفنٍّ، أعني لم تكسب اعترافاً غير قابل للجدل أو المناقشة أو التشكيك فيه والرجوع عنه مثلما هي الحال بالنسبة للشعر، ورغم تفاوت الدرجات فإن الموسيقى مثلها مثل بقية الفنون باستثناء الشعر، تعرف أنها ليست مُنَعَّمَةً باحترام شعبي اجتماعي راسخ، وهي لذلك غير قادرة على أن تتقدّم تقدّماً حقيقيّاً، تظل تدور في مكانها، وتُعيد في زمانها، آملةً حصد إعجاب، على أمل أن يستمر هذا الإعجاب زمناً كافياً ليصبح اعترافاً أصيلاً بها ولها!، وهي لن تتمكن من التقدّم حقيقةً ما لم تكسب مثل هذا الرّهان!،..
ـ عدم كسب الموسيقى لمثل هذا الاعتراف الاجتماعي العربي الخالص بها ولها، مسألة ليست دينيّة إلا في سطحها وقشرتها، فالشعراء هم من ذُكِروا صراحةً في القرآن الكريم، في حين لم يَرِد ذِكْر صريح لأهل الغناء في التنزيل الحكيم، ولا يمكن بغير اجتهاد في تفسير وتأويل بشريين أرضيين، الوصول إلى تشريع أو رأي في الغناء وأهله، والأكيد أنه لو كانت المسألة دينية فقط، لكان الشعر أولى بالهبوط والنزول وفقدان الهيبة والتقدير، غير أن الشعر كان ولا يزال أكثر كرامة على المستوى الإجتماعي، وعليه فإن المسألة اجتماعيّة ثقافية تاريخيّة في المقام الأوّل، ورأي علماء الدين جزء من هذا الموقف الثقافي والاجتماعي والتاريخي وليس الأصل فيه!، ولأنه عُودٌ من حِزمَة فإنّه يتشكّل بقدر ما يُشكِّل، ودلائل ذلك كثيرة عبر التاريخ، التاريخ العبّاسي تحديداً!،..
ـ هناك ورطتان، الأولى أن الفن، أي فن، لا يتخلّص من عقدة "النَّسَب"، لا يمكنه من الداخل احترام المجتمع المُهِين له، وهو على استعداد دائم لإهانة هذا المجتمع، من خلال تقديم نماذج تهريجيّة، استهلاكية، دعائية، نافِقَة ومُنافِقة، تستهدف الربح المادي وتتنازل بسهولة عن كل قيمة فنيّة وجماليّة!،..
ـ الورطة الثانية هي أن الشعر العربي نفسه، لن يمكنه الذهاب بعيداً، دون مُساعدة من بقيّة الفنون والآداب، ولعل هذا أحد أهم أسباب تراجع الشعر العربي بعد قفزة السيّاب الهائلة، والتي لم تفِ بكامل وعودها بعد!.