عقوق وطرب وهيبة وإشارة!
مبارك علينا وعليكم الشهر الفضيل، وتقبّل الله منا ومنكم صالح العمل.
رأيت يا أحبة أن رمضان له نكهة خاصة، تستلزم الاختصار والمقتطفات، ويطيب فيها ومعها ذكر حكايات من التاريخ والتراث للترويح والتسليّة،.. أمّا أمر الحكمة والموعظة فلا أدّعيه، ولكنني وإن كنت أظنه ليس منّي فإنني أظنه فيها! ويقيني أن الحكمة يأخذها القارئ والسامع بنباهته وفطنته، حتى وإن غفل عنها القائل والكاتب لِسَهْوهِ وبلاهته!.
ـ عن العقوق:
كان الشاعر جرير من أعقّ الناس بأبيه، وكان بلالٌ ابنه من أعقّ الناس به! مرّةً اختلفا في نقاش وبلا سلام احتدّ الكلام! فأوغل الابن في التحدّي وقال كلامًا فاحشًا: الكاذب مني ومنك كذا وكذا! فأقبلت أم بلال تؤدبه: يا عدوّ الله أتقول هذا لأبيك؟! فقال جرير: دعيه فوالله لكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي!.
ـ عن الإنصاف رغم الإنكار! أو عن أن الفنان إن أبدع فقد أراد ولم يُرغم:
كان أحمد ابن أبي داود يُنكر أمر الغناء، فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دُلَفَ يُغنّي لم يصدِّق، فخبّأه في موضعٍ ليستمع، ويبدو أنه ما إن غنّى أبو دلف حتى اختلطت الأحاسيس والمشاعر في قلب ابن أبي داود، الحزن والحسن والغضب والطرب! ولمّا فرغ أبو دلف من الغناء أو قبل أن يفرغ تمامًا، خرج أحمد بن أبي داود عليه، فأراد الأخير أن يعتذر حياءً، قال: أكرهوني على ذلك! فقال ابن أبي داود: هَبْهُم أكرهوك على الغناء، فهل أكرهوك على الإحسان والإصابة؟!.
ـ عن الناس والإفلاس:
لم يكن مُعْدَمًا فحسب، لا شك عندي في عدم سلامة عقل جعيفران، كل ما في كتاب الأغاني يؤكد تخطيه لمرحلة السفاهة بمرحلتين ونصف! لكنه فيما يبدو كان بحاجة إلى أكثر من هذا الخبل، أو لأقل من هذا الفقر، حتى يجهل حقيقة الناس! كان جعيفران يختفي ويغيب ثم يظهر فجأةً عاريًا، وخلفه الصبيان يرجمونه ويصيحون عليه بفحشٍ، ويتضاحكون ببذاءة، وفي الطرقات كان ينشد:
رأيتُ الناس يدعوني..
بمجنونٍ على حالي
وما بي اليوم من جِنٍّ..
ولا وسواس بَلبَالِ
ولكن قولهم هذا..
لإفلاسي وإقلالي!
ولو كنتُ أخا وَفْرٍ..
رخيًّا ناعم البالِ
رأوني حَسَنُ العقل..
أحُلُّ المنزل العالي
وما ذاك على خُبْرٍ..
ولكن: هيبة المالِ!
ـ عن التلميح والتلويح:
.. وجاء في كتاب البيان والتبيان للجاحظ: لولا الإشارة لم يتفاهَم الناسُ معنى خاصّ الخاصّ.!