حتى الممرض يقتل المريض
من بين ركام الجماجم المهشمة والأطراف المبتورة والأجساد المرتوية بالطعنات والدماء النازفة.. ومن بين القتلى والجرحى والمصابين والمشرفين على الموت.. ومن بين صليل الأسياف الحادة وأنين الرماح المصوبة إلى هدف لا تضل عنه قيد أنملة.. من بينها ولدت مهنة التمريض بلا مخاض ولا زغاريد ولا سائلين عن جنس الوليد الجديد القادم للحياة، في قلب ساحات الوغى وميدان المعركة وأرض القتال..
في تاريخ الإسلام جاءت رفيدة الأسلمية وتصدت لمهمة مداواة جرحى الحرب؛ فنالت كما تتفق أغلب المصادر لقب أول ممرضة عرفها المسلمون، وحينما أصيب سعد بن معاذ في معركة الخندق، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ خذوه إلى خيمة رفيدة.. ولا تحتاج القصة إلى شرح وتفصيل، وماذا تمثل وتعني خيمة رفيدة في تلك الحقبة المهمة في حياة العرب والمسلمين، وماذا تمثل رفيدة نفسها عليها رحمة من الله ورضوان..
في الغرب لم تكن الصورة مختلفة كثيرًا.. هي اختلافات الأمكنة والأزمنة.. المضمون يبدو متشابهًا، وكل الطرق تؤدي إلى يدٍ حانية تعاون مصابًا مثخنًا بالجراح.. حرب القرم الطاحنة التي امتدت قرابة الأربع سنوات بين ست دول على رأسها بريطانيا وبين الإمبراطورية الروسية أذنت لانطلاق التمريض كمهمة إنسانية رحومة في إطاره الحديث على يد الإنجليزية فلورانس ناتينجيل التي كانت ترافق جيوش بلادها وتداوي الجنود المصابين.. وفي عام 1860 أسست ناتينجيل مدرسة متخصصة بالتمريض داخل مستشفى سان طوماس وسط لندن.. ومن هنا انطلقت واحدة من أهم المهن وأدقها وأكثرها عطفًا وحنية في كافة مشوار البشرية.. فمن قال إن النار لا تورث إلا الرماد.. هذه هي الحروب أهدت العالم مهنة التمريض..!!..
والحديث بتوسع عن التمريض يحتاج إلى كلام طويل وممل.. ومن رزقه الله بصديق أو قريب أو من المعارف يعمل ممرضًا فليسأله وسيسمع حكايات خاطفة، يتيقن بعدها أن لقب ملائكة الرحمة لم يطلق عليهم جزافًا..
وبحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، فإن فنلندا تضم أكبر نسبة ممرضين في العالم، قياسًا بتعداد السكان، تليها النرويج وموناكو.. ويتدنى عدد الممرضين بصورة رهيبة في الدول الإفريقية والآسيوية الفقيرة.. فيما تعطي لوكسمبورج هذه الدولة الأوروبية الصغيرة أعلى راتب للممرضين في العالم، حيث يجتاز راتب الممرض هناك العشرة آلاف دولار شهريًّا، وبنسبة أقل يحصل الممرض على راتب مجزٍ في الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج وكندا..
وطوال الأسبوع الماضي تناقلت وكالات الأنباء الدولية خبرًا صادمًا ومفجعًا عن المهنة الناعمة وأهلها وذويها، حين كشف النقاب الأسود عن اعترافات ممرض ألماني بقتل قرابة مئة وثمانية وثمانين مريضًا على مدار ست سنوات، وكان الممرض نيلس هيغل قد ألقي القبض عليه بتهمة قتل مريضين فقط بواسطة حقن مميتة؛ فحكم عليه بالسجن سبع سنوات ونصف، ومع بحث الشرطة وشهادات الأطباء واعترافه أخيرًا تبين أن نيلس له تاريخ مهول من ارتكاب تلك الجنايات المؤلمة.. وحين استجوابه والسبب وراء جرائمه تلك فيما هو يعمل كأحد أفراد طاقم ينشد الناس عنده الصحة والعافية، قال نيلس إنه يحقن المريض بجرعات من ذات الدواء، ثم يحاول جاهدًا إنقاذه ليكسب إعجاب زملائه.. تخيل..!!..
لقد لطخ نيلس هذا بحماقاته وتصرفاته وجرائمه صفحات طويلة من البياض والصفاء والنقاء احتفظت بها مهنة التمريض عن سواها.. لكل عمل ولكل مهنة خارجون عن النص يتكفلون بالتشويه والتخريب والتقبيح والتبشيع، وبالطبع لا يمثلون إلا أنفسهم القذرة وأرواحهم النتنة.. لكن نيلس لم يتفوق عليهم لأنه قتل المرضى الأبرياء فحسب، وإنما لأنه تركنا نعيد النظر في لقب ملائكة الرحمة..
الممرضون تتلطخ أيديهم بالدماء تضميدًا للجراح، ونيلس تلطخت يداه بالدم والجريمة والعذاب.. وستبقى يا نيلس جرحًا نازفًا في جسد التمريض على مدار الزمن.. جرحًا لا يندمل..!!