2017-08-29 | 03:36 مقالات

انتبهوا.. غرفة العمليات مزدحمة

مشاركة الخبر      

كصحفيين محترفين كتب الله علينا امتهان هذه الشغلة، ننزعج ونتأذى من خبر أي صحيفة تعلن التنحي والرحيل والغياب عن المشهد.. نعرف أن ذات الأصوات ستخرج وتردد ذات الأسطوانة، وتعزف ذات اللحن النشاز، وتصرخ مع ابتسامة فرح زائفة "ما قلت لكم".. قبل أيام أعلنت الزميلة صحيفة النادي النهاية وهذا خبر يستحق التوقف عنده من أبواب كثيرة.. ننشغل بحال زملاء وأصدقاء جمعتنا معهم المهنة والعيش والملح والمصير المشترك والقلق الجماعي.. إغلاق صحيفة وتوقفها لم يعد أمراً مزلزلاً أو فاجعاً أو مدوياً.. بات أقرب ليكون عادياً.. بل إن إغلاق بقالة في نهاية شارع حارتك والحي الذي تسكنه ربما يكون أكثر فجائية من إغلاق صحيفة في السنوات الأخيرة.. البقالة تربح فكل قطعة تبيعها فيها هوامش أرباح متفاوتة، والعاملون فيها على الأغلب ثلاثة آسيويين لا تزيد رواتبهم عن راتب واحد لموظف متعاون مع أي جريدة.. المؤسسات الصحفية هي أيضا تبحث عن المرابح.. أغلب هذه المؤسسات صارت ترتضي بالتعادل.. إذا ظلت الصحيفة تصرف على نفسها وفق قاعدة الداخل يساوي اللي رايح فلا غالب ولا مغلوب.. المهم ما يكون فيه خسارة والخسارة بالعمر.. حينما تبدأ المطبوعة تخسر وتصبح حملاً ثقيلاً على المؤسسة يبدأ التفكير الفعلي بتقبل الأمر المرير وترك الساحة للآخرين.. تتقلص المصاريف وتستغني عن عدد من العاملين ثم ترفع الراية وتستسلم..

 

الناس البعيدون عن تفاصيل الصحافة يجهلون التحديات التي تعترض طريقها.. لا تغلق الصحيفة إلا بعد استنفاد كل الفرص لبقائها حية ترزق.. أتكلم بشكل عام ولا أقصد بالطبع صحيفة النادي وحدها.. أسوأ ما في الصحافة أنها باحة مفتوحة ليقول ويتقول الغرباء كل ما في خواطرهم.. الصحافة لغة حضارية ولا يحاربها إلا جوقة من الجهلة الكارهين للتنوير والانفتاح والوعي والعقول المضيئة.. لم يقرأ في حياته كلها صحيفة ثم يتوكأ على يديه ثم يجلس القرفصاء ويسأل بلكنه ساخرة "هل بقي أحد يقرأ جرايد؟".. إنها بالضبط مثل قصة رجل البورصة القوي الأمريكي روكفلر، الذي توقف عند ماسح أحذية فسأله عن أفضل الشركات التي يمكن الاستثمار فيها.. صعد روكفلر إلى مكتبه وطلب من إدارة التسويق ببيع جميع أسهمه في السوق، وعندما استفسروا عن السبب قال: طالما أصبح سوق الأسهم متاحاً حتى لماسحي الأحذية فهو في طريقه للانهيار.. وهذا ما حدث..!!..

 

يتجه العالم كله إلى التعاطي والتعايش مع الواقع الجديد الذي فرضته التقنية.. كل ما حولك تغير.. أسلوب الحياة والأكل والسفر وعلاقات البشر والتجارة طالها تحول رهيب.. الذين يكرهون الصحافة يظنون واهمين أن الأجهزة الرقمية ولدت لتحارب وتقضي على أوراق الجرايد فقط، فيما هي غيرت كل قواعد اللعبة.. هذه قضية لا يمكن تناولها على عجل.. اسأل من تعرفهم كيف كانت أيامهم قبل الأيفون وبعده، وستكتشف أنك تتحدث مع أقوام عاشوا مرحلتين مختلفتين تماما.. سيتكلم وكأنه عاش في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية..!!..

 

توقف جريدة وانهيارها ليس هزيمة للصحافة كما يتوهم المتوهمون.. مجلة "أل" الفرنسية باعت من عددها الصادر الأسبوع الماضي أكثر من نصف مليون نسخة من بينها مئة ألف من النسخة الرقمية، ويعزو العاملون في المطبوعة هذا الرقم الكبير إلى لقاء أجرته مع سيدة فرنسا الأولى لبريجييت ماكرون، عقيلة رئيس الجمهورية، والتي أفردت لها عشر صفحات تحدثت فيها عن بعض خصوصياتها وخطواتها الأولى على بلاط قصر الإليزيه.. لا أعرف هل درس أصحاب القرار العكاظي فكرة إعادة النادي إلى سيرتها الأولى حين كانت تصدر كمجلة لسنوات طويلة.. هذا أمر ليس من حقي خوض غماره، فأهل مكة أدرى بشعابها.. لكنني على يقين بأن سوق الإعلام الرياضي السعودي بحاجة إلى مجلة تقدم عملاً مختلفاً ومغايراً في ظل حركة كرة القدم المتسارعة نحو احتلال أماكن إضافية من الاهتمام الشعبي.. وطبيعة المجلات تختلف تماما عن الصحف، الأمر الذي يجعلها أكثر صموداً وبقاءً، فهي لا تحتاج مصاريف طائلة وليست معنية في الصراع اليومي وراء السباق مع الأحداث.. المجلة تقدم ما وراء الخبر، وتقدم الحوار والتقرير والصورة والمقال.. بإمكانها تقديم كل هذا بلغة ساحرة تجعل قراءها ينتظرونها كحفلة ممتعة كل أسبوع.. أقول كلاماً على هامش القضية وإلا فإن الأقلام رفعت..

 

لا أظن الزملاء في النادي بحاجة إلى تعزية ومواساة وتعاطف.. فهم كما قال أكثر من زميل أبناء مهنة وصنعة مازالت واحدة ممن تحرك تفاصيل الحدث حول العالم.. القنوات الناجحة يقودها صحفيون والصحف الرقمية يقودها صحفيون والمواقع الإعلامية المؤثرة يقودها صحفيون ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية يقودها صحفيون.. 

 

الصحافة ليست في حرب وجود، وليست في غابة، وليست في سوق أسهم.. هي مهنة العمليات الجراحية المعقدة.. أحياناً تجري عملية قلب مفتوح وأحياناً تضطر لتركيب أطراف صناعية وأحيان ثالثة تجري عملية تجميل سريعة.. لكنها فشلت في إجراء أهم عملية في تاريخها.. فشلت في بتر الدخلاء والهابطين من "البراشوت" إلى مقرها ومأواها بعد أن طاب لهم المقام والظلال..

 

هل سمعت بالأطباء المزورين الحاملين شهادات مضروبة؟.. هل تصدق أنهم يرتدون الجاكيت الأبيض ويجرون عمليات للمرضى؟.. حماك الله منهم.. وحمى الله الصحافة من دخلاء جدد، فغرفة العمليات اكتظت وازدحمت.. لدرجة أننا بدأنا نحسب الشحم في من شحمه ورم..!!