علاج قديم للتسول
يحاول العالم بقوة محاربة كل ظاهرة تشذ عن السلوك الإنساني السوي.. والظاهرة التي تحاربها أوروبا ليست ذاتها التي تحاربها أمريكا الجنوبية، والظاهرة التي تجند لها دول المغرب العربي طاقاتها وإمكانياتها بالطبع لن تكون صورة طبق الأصل من ظاهرة تحاربها موزنبيق.. وظاهرة تحاربها أستراليا ليست بالطبع هي الظاهرة التي تتم محاربتها في الفلبين..
بعض الأعداء متشابهون ويحاربهم الجميع.. الإرهاب والمخدرات والاتجار بالبشر والتهريب، كلها ظواهر يتجند ضدها أهل الأرض جميعاً.. هناك ما هو أقل ضرراً وخطراً لكنه هو الآخر قوبل بحرب شعواء بلا هوادة.. أقصد التسول والمتسولين.. أولئك الذين يحسبهم الناس أغنياء أثرياء من كثرة انتشارهم عند الأسواق ومداخل البنوك والإشارات.. لم تسلم بلد منهم.. قد تكون دبي الوحيدة التي يندر رؤية شحاذ على الطريق يسأل الناس إلحافاً.. في نيويورك وجنيف ولندن ينتشر المتسولون كما ينتشر باعة اليانصيب..
عام 1983 قدم زعيم الكوميديا المصرية عادل إمام واحداً من أهم أعماله من خلال فيلم "المتسول" الذي كتبه سمير عبد العظيم، وقصته تدور حول شاب ريفي جاء إلى القاهرة استنجادا بخاله بعد وفاة والدته لعله يجد عملاً ومأوى، لكنه يصطدم بصعوبات الحياة ويضطر للنوم في المسجد لتتلقفه عصابة تعمل بتجنيد الأطفال والرجال واستغلالهم في "التسول" عبر طرق وخطط كثيرة.. واحد من أعظم وأروع أفلام الكوميديا في تاريخ السينما المصرية، وقد حقق نجاحاً باهراً لأنه عالج قضية أرقت مضاجع الحكومة المصرية كثيراً، ولأنه كتب بسيناريو مترابط ما بين الإضحاك والحبكة الدرامية التي لم تسقط في وحول الإسفاف والتسطيح وتمديد الوقت من أجل المكاسب المادية.. قصة من أعماق المعاناة الاجتماعية وجهت رسالة حية وصادمة وجريئة، ملخصها أن هؤلاء الشحاذين المتسولين قد يكونون من ذوي الأملاك وأن ادعاءهم الحاجة والفاقة لا يعدو كونه عملاً لم يستطيعوا الخلاص منه أبداً..
لا تستطيع برامج التوعية الرسمية الرصينة القول للناس بوضوح إن المتسولين الذين يطاردونكم في الشوارع والمقاهي والمحلات قد يكون من بينهم الأكثر مالاً ورصيداً وفلوساً أكثر منكم.. هذا فيه تجاوز على الواقع.. فيلم "المتسول" أوصل الرسالة التي يؤمن بها الكثيرون ويتناقلونها فيما بينهم بحرية مطلقة إلا أنهم لا يسمعونها علانية.. جاء عادل إمام واختصر المسافة..
تنشر الصحف بين حين وآخر أخبار الحصول على مبالغ ضخمة وجدت عند متسولين.. أخبار تشبه بعضها بعضاً.. الصدمة يحددها فقط الرقم الضخم إذا اجتاز الأصفار الخمسة.. تغيرت أساليب التسول وتطورت مع تطور كل شيء.. ما عاد الأمر مقتصراً على الوقوف عند إشارة أو ملاحقة الناس داخل الأسواق.. وأحد أصدقائي لديه رأي غريب في رؤيته للتسول.. يقول إن الشحاذ أشجع الرجال.. يأخذ مالك برضا منك وبهدوء وفي وضح النهار وأمام الناس.. يفعل كل هذا وهو في أعلى درجات الاطمئنان، بينما اللص الذي نعتقد أن لديه فائضاً من الشجاعة واللا مبالاة وتحدي الصعاب فهو ينجز مهمته القذرة ثم يولي هارباً وخائفاً..
قضية التسول في المفهوم الاجتماعي أُشبعت نقداً، وأُشبعت هجوماً، وأُشبعت تناولاً، وأُشبعت عرضاً واستعراضاً.. لكن فيلم المتسول هو الذي "جاب التايهة" كما يقول المصريون..!!