2017-08-03 | 03:08 مقالات

‏.. وبعد خمسين عاما

مشاركة الخبر      

"لا بد من تسعة أشهر لصنع إنسان.. ثم تكفي دقيقة واحدة لقتله، وحتى هذه الشهور التسعة لا تكفي لصنع إنسان ناضج، وإنما يحتاج الأمر إلى خمسين سنة على الأقل لصنع إنسان يستطيع أن يتعامل مع الحياة.. ومع ذلك تكفي دقيقة واحدة لقتله".

هذه واحدة من أهم العبارات التي وردت في الروايات العالمية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق.. هذا رأيي ويا ليتك تعيد قراءتها أكثر من مرة وتتفق معي.. عبارة تلخص واقع الإنسان بين الحياة والموت والنضوج.. تلخص سباقات البشر الخاسرة مع الوقت.. وتلخص الفرق بوضوح بين الهدم والبناء..

كتبها الروائي والوزير والمفكر الفرنسي العملاق أندريه مالرو في روايته الأسطورية "قدر الإنسان"، الفائزة بجائزة غونكور عام 1933.. وهذه الجائزة تمنح كما هو معروف لأفضل الأعمال الأدبية في فرنسا.. العبارة مهمة والرواية مهمة والجائزة مهمة وأندريه مالرو هو المهم والأهم.. 

صورته تخبئ وراءها جراحًا لا تندمل.. عيناه الحزينتان ممتلئتان بالذكاء والفطنة والدهاء والمعرفة والهموم العميقة أيضًا.. ملامح حادة ترتسم على وجهه الغامض، وكأنك أمام رجل علمته البادية القوة والصبر على المكاره والمرجلة والأصالة.. ولد عام 1901 وبعد أربع سنوات فقط من قدومه إلى الدنيا انفصل والداه فعاش مع أمه وخالته وجدته التي كانت تمتلك دكانًا متواضعًا تقتات منه في بلدة بوندي الصغيرة، قبل أن تغمرها الحركة العمرانية المتسارعة وتصبح إحدى ضواحي باريس.. أما والده فراح يتاجر بالأسهم ثم اختار لنفسه طريقًا موحشًا بانتحاره عام 1930 بعد انهيار أسواق البورصة.. ويقال إن جده هو الآخر مات منتحرًا عام 1909.. عاش مالرو أوضاعًا اقتصادية ونفسية صعبة ومربكة.. شبح الانتحار يطارده أبًا عن جد.. اضطر لترك الدراسة.. المزاج المتعكر يستعصي عليه التركيز فلا يعود صالحًا للدراسة.. انشغل بالقراءة والاطلاع هربًا من الواقع المزعج..

يقضي معظم أوقاته داخل المكتبات.. أعجب وتعلق كثيرًا بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.. يبدو أنه وجد فيه شيئًا يشبه طفولته وصباه ومراهقته.. نيتشه عاش يتيمًا مكسورًا بعد وفاة والده وعمره لم يتجاوز الرابعة، وظل يكبر وسط بيت كله نساء مغلوب على أمرهن أمه وأخته وخالته، وآخر حياته أصيب بالجنون.. ومات!!

عام 1920 نشرت مجلة أكشن أول إنتاج لمالرو، ثم استمر يكتب وينشر ويبدع حتى اختاره رئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديجول وزيرًا للعلاقات الثقافية عام 1945.. آمنت فرنسا كلها بعطائه وبراعته وموهبته.. تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة أولاد.. عام 1976 مات عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.. 

لم ينتحر كما فعل آباؤه الأولون.. مات موتة ربنا كما يقول المصريون.. وتقديرًا لدوره في النهضة الثقافية الفرنسية، نقلوا رفاته إلى مقبرة العظماء في الحي اللاتيني الباريسي.. دفنوه بجانب فولتير وجان جاك روسو ولويس باستور وسلسلة من أهم شخصيات ورموز فرنسا..

ومن أقواله الخالدة: "إذا سألوني ما هو الإنسان فأقول إنه كومة صغيرة بائسة من الأسرار".

ويقول كذلك: "الوقت يتحكم بكل شيء في العالم.. مرور الوقت له قدرة على تسيير دفة العالم.. والفن هو الوحيد الذي ينتصر على الوقت".

لقد قال وكتب مالرو عشرات العبارات في مقالاته ورواياته، تجعلك تتوقف طويلاً عند تجربة إنسانية ثرية وشيقة وأخاذة وملهمة.. لكن تظل كلمته عن تكوين الإنسان في تسعة أشهر ونضجه في خمسين عامًا وقتله في دقيقة واحدة.. أكثر ما يستحق الحياة..!!