بيع الماء مثلي
كل الناس في مشارق الأرض ومغاربها تحبه وتعزه وتموت فيه.. بربك هل سمعت لو مرة واحدة في حياتك رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو كهلاً أو صبياً.. آسيويا أو عربياً أو إفريقياً أو من جزر الواق واق يكره الماء؟.. هذا هو المستحيل فعلاً وليس الغول والعنقاء والخِل الوفي.. ومع أنه المشروب الذي اجتمع الناس أجمعين على مودته والإعجاب به، إلا أن مدائحه والثناء عليه للأمانة لا تتناسب ولا تتوافق مع قدره ومكانته في قلوب عشاقه، الذين لن ينتهوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. يقال إن البحتري أكثر الشعراء كتابة عن الماء لولا أن شعره وقصائده تلك لم ترتق إلى أن تكون معروفة ومشهورة ومستساغة على أسماع وأذهان الناس.. وصلنا إلى مرحلة إذا سمعنا أحداً يتنهد بعد حالة عطش وقد ارتوى، ممتدحاً الماء يصيبنا التعجب والاستغراب.. يمدحون عصير البرتقال وعصير الليمون بالنعناع، ويمتدحون الشاي المغربي ويمدحون الكابتشينو، وإذا جاء الماء مروا عليه مرور الكرام ومرور اللئام... مروا والسلام!
تبدو الكتابة عن الماء أقرب إلى موضوع مادة التعبير الإنشائية.. تضطر لذكر نسبة ما يحتله الماء على وجه الأرض، وتضطر للقول إن دمك الذي يجري في عروقك يمثل الماء فيه قرابة 75%... وتضطر للقول إن العرب قديماً كانوا يرتحلون من أرض إلى أرض بحثاً عن موارد الماء... وتضطر للقول بأنه سائل شفاف لا لون له ولا رائحة.
على طول علاقة الإنسان مع هذا السائل الذي يعد سر الحياة الكبير، فإن عملية تعبئته ونقله داخل أوعية لم تعرف بشكل منظم ومتقن إلا عام 1621، وكان هذا في بريطانيا.. بينما تم بيع أول قنينة مياه بشكل تجاري عام 1767 في مدينة بوسطن الأمريكية... الأمريكان ليسوا مفكرين ومخترعين.. إنهم تجار ومسوقون ومستثمرون.. وحينها ظن الناس أن لهذه السلعة القدرة على علاج بعض الأمراض.. هذا يعني أن الإنسان يبحث عن الشفاء ويطارد الوهم في كل مكان وزمان.. وفي القرن التاسع عشر ومع انخفاض أسعار الزجاج وتسارع العجلة الصناعية، ارتفع بشكل كبير إنتاج المياه المعبأة وازدادت شعبيتها حول العالم، قبل أن تعود للانخفاض في القرن العشرين، حتى أطلقت شركة بيرييه حملة دعائية صاخبة وناجحة عام 1977 في أمريكا، الأمر الذي اعتبر ولادة جديدة لهذه التجارة.. وفي عام 2006 تم بيع مياه معبأة بقيمة إجمالية تلامس الستين مليار دولار على مستوى العالم، فيما زاد الطلب واستهلاك المياه المعبأة عام 2005 بأربعة أضعاف مما كان عليه عام 1990.. وتقول الأرقام التي لا أؤمن بها كثيراً إن الأمريكان يفرغون مليونين ونصف علبة مياه بلاستيكية في الساعة الواحدة.. وعليك الحسبة كم يستهلكون في اليوم وفي الشهر وفي السنة... وكثير من الدراسات الطبية تشير إلى أن العبوات البلاستيكية المنتشرة الآن مضرة، كونها تحتوي على مواد كيميائية تنتقل بسرعة من البلاستيك إلى الماء... أما أكثر البلدان استهلاكاً للمياه المعبأة فهي الصين وأمريكا والمكسيك وإندونيسيا والبرازيل.
فيما أمريكا أول المصدرين والمنتجين وبعدها فرنسا والصين وإيطاليا وألمانيا.. وكثير من السعوديين يسمونها مياه صحة، كون أول شركة مياه معبأة دخلت إلى أسواقنا هي مياه صحة اللبنانية، ثم خرجت بعد إنشاء عشرات المصانع السعودية في هذا المجال لأنها لا تستطيع المنافسة بالسعر متأثرة بتكاليف النقل والتخزين والإنتاج.. خرجت من السوق السعودي وتركت اسمها محفوراً على كل لسان.
وتعد تجارة المياه المعبأة رائجة ورابحة ومزدهرة ويتوقع لها مزيد من النجاحات والقفزات.. وأنت يا صاحبي إذا كنت على قد حالك مثلي ولا تستطيع أن تبيع وتتاجر بالماء، فليس أمامك إلا أن تبيع الماء في حارة السقايين.. ولعلك لا تخسر مثلي.