2017-07-26 | 02:37 مقالات

لا أحد يتعلم

مشاركة الخبر      

 

كل شيء يمكن أن تتعلمه إلا الرسم.. تتعلم كل الهوايات.. تتعلمها فقط وليس بالضرورة أن تجيدها أو تبدع فيها.. يمكنك أن تتعلم الشعر والكتابة والتلحين والغناء ولعب كرة القدم.. المجال مفتوح لتتعلم كل الفنون.. الرسم وحده الذي تطوره وتزيده وتضيف إليه لا أكثر ولا أقل.. أولًا يجب أن تولد رسامًا موهوبًا.. موهبة يهديك إياها رب العزة والجلال وبعدها كل شيء يهون.. 

 

إذا أردت تعلم الشعر فهناك قواعد وثوابت وأسس ترتكز عليها.. تتعلم الرقص في شوارع القوافي والأوزان.. تتعلم المديح والهجاء والرثاء.. تتعلم الجزالة والمتانة وتنسيق الأفكار.. تتعلم الإقناع والإيحاء والتنوع والتنويع.. تتعلم الألفاظ ومخرجاتها ودلائلها.. تتعلم بحور الشعر الستة عشر.. تتعلم عن الشعر ذلك وأكثر.. تتعلم وتعرف أن موريتانيا تسمى بلد المليون شاعر.. تتعلم الشعر وتكتبه لكنك حتمًا وطبعًا وقطعًا ويقينًا وبالتأكيد لن تكون نزار قباني أو بدر بن عبدالمحسن أو خلف بن هذال أو فهد المساعد أو سعد بن جدلان أو محمد الثبيتي.. ستكون شاعرًا والسلام.. 

 

حتى تصبح مثل أولئك الشعراء العظماء تحتاج إلى أن تتحول إلى غيمة لا تحمل جواز سفر ولا تعترف بالحدود وتمشي مع الهوى.. تحتاج إلى خيال يسبق الواقع بمئة سنة قمرية.. تحتاج إلى أرض خصبة تحتل مئة فدان من قفصك الصدري مزروع على ترابها الياسمين والفل وشجرة تفاح أخضر..!!.

 

الرسم لن تتعلمه حتى لو أخذت دروسًا خصوصية عند بيكاسو ودافنشي وأحمد المغلوث.. كانت حصة الرسم في الابتدائي مضيعة للوقت والمال.. يدخل معلم التربية الفنية ويطلب منا رسم شمس وجبل ونهر يجري.. الشمس تسطع على جباهنا وأجسادنا حتى اختلطت أشعتها بأبداننا كما تختلط مياه الأمطار بأتربة الأرصفة.. ويا بنت أنا للشمس في جلدي حروق..!!.

 

لا نعرف الجبال الشاهقة ومن باب أولى لا نعرف الأنهار.. لم تلدنا أمهاتنا عند جبال الألب ولا على نهر النيل..!!.

 

مع ذلك رسوماتنا تتشابه كما تتشابه ملامح الصينيين.. قبل عشر سنوات تقريبًا وقفت أتأمل صورًا معروضة لرسام محترف في إحدى زوايا فندق شيراتون القاهرة.. رسومات مذهلة ومبهرة لفنانين وسياسيين ومشاهير.. تبادلت مع الرسام حديثًا عابرًا.. طلب صورتي ليرسمها.. اتفقنا على المبلغ وتعهد بأنها ستكون طبق الأصل.. بعد ثلاث ساعات وجدته يطرق باب الغرفة.. لم تعجبني اللوحة.. قلت له.. هذا لا يشبهني فرد بروح فنية: "بحثت عن أجمل شيء فيك وهي عينيك فضغطت عليها حبتين".. وأضاف: "لو كانت الرسمة زي الصورة يبقى ما عملناش حاجة"..!!.

 

أقنعني أو أنا أريد أن أقتنع.. هذا لا يهم.. المهم أنني تركت اللوحة في الفندق متعمدًا قبل خروجي إلى المطار..!!.

 

لقد تعامل معي على طريقة الشاعر الهندي الأسطوري رابندرات طاغور الذي كان يردد دائمًا: "اِبحث في الناس عن مزاياهم.. وابحث في نفسك عن عيوبك تكن أحكم الناس"..

 

امتلأ ذلك الرسام بالكثير من الحكمة والقليل من الفن.. لم يشغل نفسه بعيوبه.. ومن منا بلا عيوب.. انشغل عفا الله عنه بمزايا الناس وأنا واحد من ضحايا هذه المزايا.. كانت ميزة.. صدقتها بابتسامة راضية مرضية.. ابتسامة علمتني أن الرسم بالفعل لا يمكن أن يتعلمه أحد.. ومزايا الناس كثيرة..!!