ولا أرتضي بالخلود بديلاً
الكلمات تشبه الناس وطبائعهم ومهماتهم.. بعض الكلمات وقورة كشيخ طاعن بالسن تكسو وجهه لحية بيضاء كثيفة، حسن السيرة والسلوك بشهادة جيرانه وأصدقائه وأبنائه وأحفاده وعشيرته الأقربين.. بعض الكلمات قاسية وشرسة مثل تعابير حادة ارتسمت على ملامح سجان لا تأخذه رحمة أو عاطفة بمحبوس مظلوم خلف القضبان منذ سبع سنوات خلت.. وكلمات ناعمة رقيقة مثل ملمس سطح يد طفلة رضيعة لم تحتفل بعد بميلادها الأول.. وكلمات نصابة مثل عطار استغل ثقة زبائنه السذج وظل طوال عمره يطغى في الميزان.. وكلمات مخادعة تفعل ما يفعله السحرة المحترفون.. ولا يفلح الساحر حيث أتى.. وكلمات طيبة كما هم الطيبون الذين لا يختلفون أبداً عن شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. وكلمات خبيثة كما هم الخبثاء ذوي الخصال الرديئة والأفعال المذمومة.. ويحرم عليهم الخبائث.
كلمات تتخالف وتتحالف وتتباين.. تماماً مثل وجوه الناس العابرة في حياتك.. كلمة واحدة عجزت عن تصنيفها.. كلمة ليست كالكلمات.. أحياناً أحترمها وأحبها وأقدرها.. وأحياناً أخرى أذمها وأكرهها وأحتقرها.. وأحياناً ثالثة أتجاهلها وأغض الطرف عنها وكأنها نسياً منسياً.. لم تحيرني كلمة بين معاجم الكلمات وقواميسها مثل كلمة "الشعب".. وأعتقد أن أبو القاسم الشابي بقوله قبل تسعين عاماً تقريباً: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" تسبب في ما عرف بالربيع العربي أكثر مما تسبب به بائع الخضار محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه وسط مدينة سيدي بوزيد لتندلع الشرارة وتتحول دول عربية عريقة إلى بحر من الدماء والأشلاء والقتلى.
واللبنانية جوليا بطرس ارتفع صوتها لحد الصراخ والعويل وهي تغني من كلمات الليبي علي الكيلاني: "وين الملايين الشعب العربي وين" تشحذ الهمم العربية من أجل معاونة ومساعدة فلسطين في واحدة من أوجه الحماسة البائسة.. قدموا لفلسطين الخطابات الجوفاء والشعارات البالية والأغاني المدججة بكلمة "الشعب".. يبدو أنني أعاني فعلاً من حساسية مفرطة ليس لها معنى.. وليس لها داعٍ.. وليس لها علاج.. وإلا فهذا فنان شعبي وهذه سيارة شعبية وذاك تراث شعبي وهذا فريق شعبي.. المقصود بالشعبوية هنا بالتأكيد أوضح من عين الشمس.. أذكر نفسي وإياكم والذكري تنفع المؤمنين.. هذا يعني الجماهيرية والارتباط بأطياف واسعة من الشعب.. يقولون إن بدر عبد المحسن سئل عن أفضل فنان شعبي فقال: "محمد عبده".. بالتأكيد أن البدر لا يريد بتلك الإجابة الإساءة أو التقليل أو الإنقاص والحط من قدر فنان العرب.. ليس هذا أبداً لكنه أراد فقط استخدام كلمة فنان شعبي في مكانها الذي يراه صحيحاً.. يريد تصحيح مفاهيم خاطئة ليس عن الفن وإنما عن الشعبوية.. هنا يأتي اللبس والالتباس واختلاط المعاني.. في الفن والشعر تتنحى الشعبية عن مفهومها.. حينما تقول فنان شعبي لا تقصد بأنه صاحب شعبية جارفة وقوية ومؤثرة، وإنما تقصد فئة وفصيل من الفنانين توشك على الانقراض وسيطروا على ذائقة نوع من البشر لأسباب كثيرة لكنهم عجزوا عن الاستمرار والعيش بين أمزجة المستمعين وارتضوا بالبقاء فقط في ذائقة البسطاء والأقل وعياً وتقدماً وحضارة.. تحليل وتفكيك وتفتيت بعض الأشياء يبدو جارحاً.. لكنها آراء وأقوال وظنون ربما لا تتلامس مع الحقيقة والواقع.. أما الشعر الشعبي فهو اسم شائع للشعر النبطي المكتوب باللغة الدارجة بين الناس الواقف في الضفة الأخرى المضادة للشعر الفصيح.. هو إشارة إلى أن الشعر الفصيح ظل خاصاً بالمثقفين واللغويين وأولئك الذين مازالوا يبحثون ويطربون للبحتري وأبو تمام والفرزدق وبدر شاكر السياب..
الخدع البصرية سلاح يستنزف به المهرجون وعتاولة الأيدي الخفية جيوب المشاهدين والمتفرجين في الكازينوهات والمسارح المفتوحة.. وكلمة "الشعب" خدعة لغوية يستنزف بها القومجيون الدجالون عقول لم تنضج قبل أوانها.. في دول القومية العربية الغارقة بالأوهام يزعجون عباد الله.. يزعجون الشعوب المغلوبة على أمرها ويخدعونها بكلمة "الشعب" وأغاني الشعب وإرادة الشعب.. من أجل جمال عبد الناصر كانت السيدة تغني "أنا الشعب لا أعرف المستحيل ولا أرتضي بالخلود بديلاً".. رحم الله أم كلثوم وكامل الشناوي ومحمد عبد الوهاب.. فلا أظن مثل هذا الثلاثي كان يريد خداع أحد!!